بقلم عمار عمروسية
أقدم “محمود عباس” صبيحة الخميس 14 مارس على تكليف “محمد مصطفى” لخلافة “محمد اشتيه” في منصب رئاسة الحكومة الفلسطينية بعد 3 أسابيع من طرح الأخير استقالته وقبولها.
ومعلوم أنّ الوافد الجديد يعدّ طوال السنوات الماضية من الحلقة الضيّقة الأشدّ قربا والتصاقا بالرئيس الفلسطيني، فهو رجل الأعمال المرتبطة الكثير من معاملاته الاقتصادية بشركات نجل “عباس“، وهو المستشار الاقتصادي الأبرز للرئيس، فضلا عن اشتغاله لمدّة 15 عاما بالبنك الدولي في واشنطن!!!.
إنّ هذا التغيير الحكومي يختلف عن كلّ ما سبقه بالنظر لعدّة عوامل، فيها ما هو فلسطيني وفيها ما هو إقليمي وعالمي.
ففي المجال الأول مازال العدوان الإجرامي البشع على قطاع “غزة” في أوجه مخلّفا حصيلة هائلة في الأرواح والبنى التحتية. والأنكى من ذلك إن حكومة “نتانياهو” مازالت ممعنة في مواصلة حرب الإبادة الجماعية التي من المحتمل أن تعرف أبعادا أكثر كارثية إذا ما أقدم جيش الاحتلال على تنفيذ اجتياح مدينة “رفح” وفق الخطّة العسكرية التي صادق عليها مجلس الحرب المصغّر.
بالتوازي مع ذلك يعيش فلسطينيو الضفة الغربية محافظة “القدس” تحت أفظع أنواع التنكيل الذي حوّل كلّ المنطقة إلى سجن كبير تحكمه عصابات المستوطنين المنفلتة من كلّ رقابة وغطرسة، الجيش الذي ثابر على الاجتياحات الهمجية لكل القرى والبلدات والمدن بما فيها “رام الله” مقرّ إقامة “عباس” وسلطته.
أمّا في المستوى الإقليمي العالمي، وتحديدا من زاوية القوى الإمبريالية الأمريكية / الغربية وتوابعها من أنظمة العمالة والخيانة، فقد نشطت ديبلوماسية الغدر والتصفية لسرقة منجزات “عملية طوفان الأقصى” البطولية.
فتلك القوى سارعت في حبك الدسائس ونسج المؤامرات بطرق مكشوفه وسرّية بهدف صياغة مستقبل “غزة” وكلّ فلسطين بما يخدم مصالحها ويضمن تحريك قطار التطبيع على أنقاض المقاومة وأنهار دماء ودموع الشعب الفلسطيني الصامد.
في هذا المنعطف التاريخي الحادّ جاء نصّ التكليف مثقلا بمهمّات خيالية تتجاوز حدود سلطة دولة الوهم المنبثقة عن خديعة اتفاقيات أسلو سيّئة الصّيت.
فالحكومة العاجزة لمدّة أشهر عن تسديد رواتب حتى موظفيها زيادة عن توفير الخدمات الدنيا لمواطنيها لم تجد حرجا في الوعد بإعادة إعمار “غزة“!!!
والأهم من ذلك أن هذه الخطوة جاءت أولا محكومة بعقلية التّفرد مثلما ورد ببيان الفصائل الأربعة (حماس، الجهاد، الجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية الديموقراطية).
إنّ القفز على ضرورة التشاور الوطني وحوارات الفصائل الفلسطينية التّي كان آخر اجتماعاتها في الأيّام الأخيرة بموسكو يمثّل نكوصا وقحا عن مجهودات بلورة برنامج حركة التّحرر الوطني الفلسطيني وانقلابا سافرا على مساعي تمكينها من قيادة موحّدة ومكافحة.
وثانيا إهمال الاستحقاقات الضرورية التّي يطرحها سياق الحاضر الذي يتركز بصفة أساسيّة على تطوير كلّ فعاليات المقاومة المسلّحة والشعبية على امتداد الأراضي المحتلّة بما يسهم في وقف العدوان وكسر شوكته.
فالتغيّير الحكومي بهذه الطريقة وفي هذا الوقت إنهاك للساحة الفلسطينية وفعالياتها وزجٌّ بها في معارك هامشية وتغذية لعناصر فرقتها وإرباك للوحدة الميدانيّة النضالية التّي تحقّقت في أتون المعارك الطاحنة ضدّ العدو الغاشم.
وثالثا، وقد يكون الأهم، أنّ هذه الهرولة نحو تركيز الحكومة الجديدة لم يكن سوى استجابة للمطالب الأمريكية التّي وضعت على رأس أولوياتها ما أسمته “التنشيط الحكومي وإصلاح السلطة” ضمن تصوّرها التصفوي لإدارة شؤون “الضفة الغربية” وقطاع “غزة“.
والحقيقة أن مؤشرات عديدة تؤكّد ما ذهبنا إليه، فالمطالب الأمريكية في الآونة الأخيرة تمحورت حول التجديد المشروط بالدّفع إلى الواجهة بوجوه “التكنوقراط” لقطع الطريق أمام إمكانيات أيّ تقارب فصائلي قد يفضي إلى إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني ضمن حكومة توافق وطني يضع مهمته الأولى وقف العدوان وتفعيل المقاومة وأطرها التنظيمية الجامعة.
لقد عصف “عباس” بكلّ هذه الآمال وقطع الطريق أمام الاشتغال على تحقيقها كما تريد الولايات المتحدة الأمريكية التّي تنبني كلّ خطّتها على نفخ الرّوح في مسار “أوسلو” الذي أنهته عقود طويلة من ألاعيب المفاوضات الخاسرة والمغشوشة ودفنته عملية “طوفان الأقصى” البطولية.
الخطوة، بالرّغم من كلّ مسوّغات تبريرها، وثبة خارج سياق استحقاقات المرحلة التاريخية الراهنة وسقوط جديد في نفق المفاوضات العبثيّة وأوهام حلّ الدولتين الذي تروّج له أمريكا والغرب.
والأنكى من ذلك أنّ العدوّ الصهيوني على لسان رئيس حكومته أقفل الطريق أكثر من مرّة أمام هكذا أمنيات، فكلّ اتفاقات “أوسلو” وفق قوله “خطأ تاريخي لا يمكن العودة إليه” ويضيف، عندما يتعلّق الأمر باليوم التّالي في “غزة“، قائلا: “لا حمستان ولا فتحستان“.
فالمستقبل وفق “نتانياهو” لا يسع سوى الاستيطان والضمّ مجدّدا، وفي أحسن الحالات حكما مدنيا خاضعا وذليلا لم يقدر حتّى وقتنا هذا على وضع أسسه الأولى حتّى مع عشائر القطاع ووجهاءه الذين رفضوا بالمطلق طعن المقاومة وشعبها.