مرّت الذكرى 68 لإعلان استقلال تونس، والملفت للانتباه هو اللّاحدث سوى كونه يوم عطلة رسمية في الوظيفة والقطاع العمومي، فعدا بعض اللافتات اليتيمة أمام المعتمديات والبلديات، فلا شيء يوحي بكونه ثمّة حدث ما بحجم ذكرى إعلان الاستقلال، وهي ظاهرة تكرّست في تونس مع حكّام بعد الثورة الذين يعتبرون أن التاريخ بدأ معهم، والأمر يهمّ بذات القدر “الإسلاميين” كما يهمّ قيس سعيد. هذا الأخير، ورغم اعتماده الكبير في خطابه على مفاهيم السيادة الوطنية والاستقلال وحرب التحرير الوطني، إلا أنّ إحياءه لذكرى 20 مارس مرّ باهتا عدا زيارته لوزارة الداخلية. علما وأن ذكرى هذا العام تزامنت مع حدثين ينسفان في العمق مغالطاته حول السيادة: الحدث الأول هو حصول الدولة على قرضيْن من البنك الدولي اللّذين رغم قيمتهما الصغيرة فإن معانيهما ورسالتهما كبيرة وواضحة وهي أن مؤسّسات الرأسمال الاحتكاري العالمي لا مشكل لها مع نظام سعيّد وخياراته النيوليبرالية. الحدث الثاني هو مصادقة لجنة العلاقات الخارجية في برلمان الدّمى على اتفاقية صندوق قطر للتنمية التي ستعرض على الجلسة العامة قريبا، وهي ذات الاتفاقية التي أمضتها حكومة النهضة عام 2019 وتم رفضها والتشهير بها من قِبل عديد القوى، وها هي اليوم تعود مع مكاتب الحكم الشعبوي رغم خطابات المغالطة. والاتفاقية خطيرة بكل ما تحمله من إجراءات مثل حقّ الطرف القطري في شراء الأراضي والعقارات وبيعها، وانتداب العمالة من أيّ بلد يريد، وتصدير المداخيل بالعملة الصعبة، أي في كلمة أن هذه الاتفاقية ستعطي لقطر حقوقا وصلاحيات لن يحقّ لتونس مسّها، ستتصرّف قطر كما لو أنها على أرضها، وأن مجال تصرّفها هو خارج عن السّيادة التونسية.
إن هذين المثالين هما دليلان على معنى السيادة الوطنية لدى سعيّد الذي لا يختلف جوهريا، من جهة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي يحملها ويكرّسها، عن كلّ حكّام تونس السابقين من حزب الدستور إلى حركة النهضة وكلّ حلفاء حكمها.
إن الاستقلال الفعلي الذي ناضل من أجله الشعب التونسي وقدّم التضحيات العظيمة بالنّفس والنّفيس لا معنى له خارج فرض سيادة الوطن والشعب على مقدّراته من خلال خيارات وسياسات تكرّس استقلال الوطن وسيادة الشعب، وهو ما انتهكته اتّفاقيات 20 مارس 1956 في منطوقها وفي مَلاحِقها السرّية العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، وهو أيضا ما استنقصته الخيارات اللاوطنية واللاشعبية المتّبعة طوال العقود السّبعة الماضية والتي وضعت بلادنا تحت تحكّم المؤسسات والدول النهّابة. وتمثل الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي واتفاقية الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي ومع حلف الأطلسي ومع البنوك الأوروبية والأمريكية، أدلّة قطعيّة على طبيعة العلاقة التي مازالت تربط بلادنا بدول المتروبول الاستعماري ومؤسّساته. ولقد أثبت تدخّل قيس سعيد لإيقاف النظر في قانون تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني بداعي أن ذلك يمسّ من مصالح تونس الخارجية، أثبت الحقيقة الدّامغة عن تبعيّة الدّولة التونسية التي لا سيادة لها إلّا على شعبها الذي تقهره وتقمع تطلّعاته الوطنية.
إن الاستقلال الحقيقي لا معنى له خارج خيارات وطنية وشعبيّة جديدة تقطع مع التبعيّة والاستغلال وتفتح الباب أمام الانعتاق الاجتماعي من خلال ضمان العدالة والمساواة والكرامة. فلا كرامة للشعب إلا بكرامة الوطن، ولا كرامة للوطن إلا بكرامة الشعب.