بقلم شريف خرايفي
أمر رئيس الجمهورية بالتخلّي على التعامل بالمناولة، وبعده أصدر رئيس الحكومة قرارا يحجّر التعامل بعقود المناولة في الوظيفة العمومية وبإلغاء المنشور 35 الصادر سنة 1999 المتعلق بالمناولة في الإدارات والمنشآت العمومية، “من أجل توفير ظروف العمل اللاّئق للعمّال”، حسب مزاعم الرئيس ورئيس حكومته.
التشغيل الهش… جريمة دولة
من المهم التأكيد على أن العمل القار واللائق أصبح من قبيل الأمنيات في هذا البلد الذي ينهشه الفقر والتهميش والبطالة والتبعيّة منذ عقود، يعاضدها في ذلك الأزمة والفشل السياسيّين المزمنين أيضا. فظروف العمل وأوضاع العمال هي الأسوأ منذ عقود، حيث استشرت البطالة وتعمّقت بسبب خيارات اقتصاديّة غير منتجة ولاشعبيّة فُرِضت علينا فرْضًا بسبب رضوخ المنظومات الحاكمة المتعاقبة لتوصيات المؤسسات المالية العالمية، والتي بلغت ذروة الابتزاز بتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية في إطار حزمة من التوصيات الموجعة لفائدة الرأسمال العالمي.
في هذا السياق جنحت الحكومات المتعاقبة مسلوبة الإرادة والقرار إلى إطلاق العنان للتشغيل الهشّ عبر استحداث آليّاتٍ وسنّ قوانين وتشريعات تضرب في العمق مبدأ العمل اللاّئق، وهوما استغلّته أغلبية المؤسّسات المشغّلة في تونس لاستعباد العمال، سواء العاملين بالسّاعد أو بالفكر. فمن لا يعرف كيف يعيش عمّال الحضائر وعمال المناولة والأعوان العاملين وفق الآليّات (الآلية 16، الآلية 20، عمال الحضائر، مسدو الخدمات في عديد الوزارات وخاصة بوزارة الثقافة ووزارة الشباب والرياضة..) والأساتذة والمعلمون النواب؛ ولكن من المفارقات أن أصحاب هذه الشركات، لا هي جهة منتجة وخالقة للثروة، ولا هي من تبيع قوة العمل؛ هي فقط تجني أموالا طائلة من خلال وساطتها بين العامل والمؤجّر (سواء الخاص أو العمومي). ومن هذه الزاوية فإنّ العامل، العنصر المحوري والرئيسي في عملية الانتاج، لا يجني سوى النّزر القليل من الدنانير (أحيانا ف حدود الحد الأدنى المضمون: SMIG) بينما يجني السّماسرة أضعاف أجره.
ماذا فعل الرئيس صاحب كل السلطات لحل المشكل؟
من لا يعرف أن المناولة هي امتهان واستعباد للإنسان؟ ومن لا يعرف أنّها أقرب إلى الاتجار بالبشر منها إلى إسداء خدمة اجتماعية أو اقتصادية؟ لا ننتظر أن يصرّح رئيس الجمهورية، بعد أكثر من أربعة سنوات من حكمه أن “المناولة هي نوع من أنواع الاتجار بالبشر، اتّجار ببؤس الفقراء وعرقهم”. لسائلٍ أن يسأل : الآن فقط، وهي سنة الانتخابات الرئاسية، تذكّر الرئيس مآسي العاملين في المناولة؟ الآن ففط تذكّر أن “العمل حقٌّ لكل مواطن ومواطنة”؟ ماذا فعل من أجل تمكين طالبي الشغل من هذا الحق؟ ما هي الإجراءات التي اتّخذها من أجل التقليص من هذه الآفة (البطالة)، خاصة وأن الأرقام الرسمية المنشورة للعموم، تشير إلى صفر إنجازات، بل تجاوزت في السوء أحيانا الأرقام والنّسب الموروثة عن حكومات الفشل المتعاقبة؟ ألم تتفاقم في السنوات الأخيرة في ظل حكم قيس سعيد وهو الذي أقدم على إلغاء قانون، 38 الخاص الانتدابات الاستثنائية في القطاع العام، بعد أن شجّع المعطلين للمطالبة به ودفع النواب لعرضه على أنظار البرلمان، ثم أمضى عليه بعد المصادقة عليه وأمر بنشره في الرائد الرسمي، ثم انقلب عليه بشكل فجّ ليقضي بذلك على آمال عشرات الآلاف ممن طالت بطالتهم؟ ثم، أليس هناك من عجب وغرابة في تصريح الرئيس من أنه “على الدّولة أن تتّخذ التدابير الضرورية لضمان الأجر على أساس الكفاءة والإنصاف”؟ يكاد يوهمنا الرئيس أنه شخصية معارضة للحكم، أو لكأنه محايد على الدّولة وخارج عنها لـ “يأمرها” و”يطلب” منها أن تتّخذ هكذا تدابير، خاصة وأنه منذ 25 جويلية 2021 أصبح هو الدّولة ومتماهٍ معها بعد أن وضع يده وعينه وعيونه على الحكومة والهيئات الدستورية “المستقلّة” وعلى مؤسّستي الأمن والجيش والقضاء والإعلام واحتكر لنفسه التّشريع، واحتكر حتى الحملات الانتخابية السابقة لأوانها؛ ألا توفّر له كل هذه المرافق والمؤسسات التي يتحكّم فيها والصلاحيات التي أعطاها لنفسه بأن “يتّخذ التدابير الضرورية” لفائدة العمّال؟
لم تكن سبّاقا… بل سبقوك كُثُر…
حتى لا يفهم أن ما أقدم عليه رئيس الجمهورية هو قرار ثوري فقد أمكن للاتحاد العام التونسي للشغل من إمضاء اتفاق إطاري مع حكومة باجي قايد السبسي المؤقتة يوم 21 أفريل 2011 نصّت على إنهاء المناولة في القطاع العام والوظيفة العمومية وتمّ ترسيم بمقتضاها 30 ألف عون.
ثمّ أمضى اتفاقية أيضا مع الحكومة يوم 22 جانفي 2014 نصّت على ترسيم 14200 من عملة الحضائر الجهوية وترسيم 5 آلاف من عملة حضائر الفلاحة على ثلاث سنوات.
وأمضى يوم 8 ماي 2014 اتفاقية مع وزارة التشغيل نصّت على ترسيم 21 ألف من أعوان الآلية 16 على خمس سنوات. ويوم 20 أكتوبر 2020 أمضى اتّفاقا يقضي بترسيم 39 ألف من عملة الحضائر ما بعد الثورة على خمس سنوات (وهو اتفاق مازالت حكومات الرّئيس تناور من أجل تأجيل بعض دفعاتها إلى أجل غير مسمّى)..
إلى جانب المنظمة الشغيلة، فإن قضيّة النضال من أجل العمل اللائق والقار والتصدّي لكلّ أشكال التلاعب والسّمسرة باليد العاملة وامتهانها، قضية تتبناها عديد المنظمات (اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل يتبنّى في أرضيته التأسيسيّة سنة 2006 هذا الملفّ، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يناضل من أجل إنهاء عقود التشغيل الهشة والمذلّة)، تنضاف إليها نضالات القوى التقدميّة والديمقراطية التي تناهض السياسات الليبرالية في مجال التشغيل وكانت دوما منخرطة في نضالات العمال من أجل فرض ظروف عمل تحفظ كرامتهم.
في تبيان المخاتلة والمغالطة
أن تتّخذ السلطة قرارا بمنع التعامل بعقود المناولة، فهذا أمر جيّد. ولكن هل وضعت خطّة لمتابعة ومراقبة كيفيّة ضمان الترسيم لأكثر من 70 ألف يشتغلون وفق هذه الآلية؟ هل ستحميهم من غول المشّغل وسطوته وتحول دون طردهم؟ ثمّ، ونحن نتنّى جانبا من التصريح الذي قال فيه أنّ المناولة هي اتّجار ببؤس العامل وبعرقه. ولكن لا نعلم إن كان هذا القرار يعني به فقط من يشتغلون في القطاع العام ام أنّه سيشمل عشرات وربّما مئات الآلاف العاملين في القطاع الخاص، وظروفهم أسوأ بكثير تصل حدّ الاستعباد؟ وإذا افترضنا أنّ أصحاب المؤسسات المشغّلة رفضوا (وهم طبعا يرفضون) ترسيم العمّال، من الذي سيحمي هؤلاء من غول التّسريح وشبح البطالة؟
إنّ دولة تتبنّى مقاربات وتوجّهات اقتصاديّة تابعة لمصالح رؤوس الأموال العالمية ولا تعوّل على مقدّراتها الخاصة ولا تستثمر في رأسمالها البشري الهام، طبيعي أن تكون سياساتها التشغيليّة فاشلة وكارثيّة. فلا يكفي أن تقول كلاما جميلا منمّقا عن الكرامة وعن الحقّ في العيش بكرامة والحال أنه لا يحوز على إرادة حقيقيّة ولا تصوّر ملموس للقضاء على هذه الآفة والمعضلة التي تنخر المجتمع وتحكم على الشباب، بُناة المستقبل، بالفناء والإحباط واليأس والجنون. هي مجرّد خطب معلّبة، تماما كغيره من الشعارات مثل “التطبيع خيانة عظمى”، ثمّ في أوّل اختبار لتنفيذ وعده ظهر بوجهه الحقيقي واعتبر أن سنّ قانون كهذا سيهدّد مصالح تونس الخارجية”، تماما مثلما يقوم بزيارات “انتخابية” تنتهي بتوعّد المحتكرين والفاسدين والحال أنّ البلاد تعيش عسرا حقيقيّا في منظومات الإنتاج جميعها. تماما مثلما يعد بضمان الحريات والحال انّ السجون ومراكز الإيقاف تعجّ بضحايا المرسوم 54 سيّئ الصّيت… وغيرها كثير من المغالطات الديماغوجية التي تكشف عن حجم التّلاعب بوعي التونسيّين والمتاجرة بأحلامهم وآمالهم… ولكن لن تدوم هذه الحيل إلى ما لا نهاية.