بقلم عمار عمروسية
تكثّفت في المدّة الأخيرة الأنباء المتضاربة والتسريبات المتباينة حول المفاوضات غير المباشرة بين حركة “حماس” وحكومة الكيان الصهيوني.
اللقاءات والجلسات لم تنقطع تقريبا في “القاهرة” و”الدوحة” بناءً على ورقات تأطيرية عامّة منبثقة عن مشاورات العاصمة الفرنسية “باريس”.
ولعلّ ما يلفت الانتباه في جميع جولات التفاوض حتّى يومنا هذا على الأقلّ التعثّر الكبير لماراطون الحوارات رغم تحديث مقترحات مضامين تلك الورقات.
فالفشل ظلّ على الدّوام هو الحاضر الذي أسقط الأوهام التي تزايدت لدى ساسة حكومات الوسطاء (أمريكا، قطر، مصر) خصوصا قبيل حلول شهر رمضان.
فكلّ محاولات حلحلة الأوضاع والوصول إلى تفاهمات ولو في شكل هدن إنسانية متتابعة انتهت إلى مآزق جديدة بسبب إصرار حكومة “نتانياهو” على الاستمرار في حرب الإبادة الجماعية المدّمرة لجميع مظاهر الحياة بالقطاع.
فكلّ اللّغط الإعلامي والسياسي الذي أعقب ردّ “حماس” على وثيقة ما اصطُلِح على تسميته بورقة “باريس واحد” قابله منذ اللحظة الأولى لاءات العدوّ الصهيوني المحكوم حتّى النخاع بعقيدة الانتقام والإجرام.
فرئيس الحكومة سارع إلى نعت مطالب “حماس” بالسخيفة وتوعّد بمواصلة الحرب ولوّح باجتياح “رفح”، أمّا رئيس حزب “عظمة يهودية”، “بن غفير”، فقد أعلن وفق ما أوردته صحيفة “الواشنطن بوست” ابتهاجه بالفشل وأضاف قائلا: “مصلحة إسرائيل الآن وغدا العودة إلى غزة”.
فطغمة التقتيل بالكيان وحكومته تدير شؤون الحرب والتفاوض وفق سياسات أقصى اليمين الديني المتطرّف الذي يمثّله أفضل تمثيل وزير المالية “سموتريتش” ورئيس حزب “الصهيونية الدينيّة” الذي وجد الوقاحة بعد لقاء باريس الأول للقول: “لا يوجد شيئ اسمه الشعب الفلسطيني”، وأضاف: “المفاوضات مضيعة للوقت… فإذا ضربنا بيد من حديد فلن يكون هناك حتّى أطفال يرمون بالحجارة”!!!!
فكلّ جولات الحوار رافقها تسعير لوتائر العدوان الهمجي وأعقبها إمعان في حرب الإبادة الجماعية التّي اتخذّت أشكالا مروّعة جمعت بين ما يعرف بالإبادة الجغرافية ونظيرتها الديموغرافية بهدف تحقيق مزاعم النصر الكامل أو المطلق مثلما ردّد “نتانياهو”.
مسار المفاوضات طوال الأسابيع الماضية أضحى في طريق مسدود رغم التعاطي المرن والمبدئي للطرف الفلسطيني مع مقتضيات المرحلة ومتطلبات إنهاء العدوان، غير أنّ ألاعيب حكومة “نتانياهو” المتواصلة خرّبت كلّ تلك المساعي وأدخلتها من الزّاوية الموضوعية في مسكّنات وهمية من جهة لخفض التعبئة الشعبية العالمية المتصاعدة ضدّ المجازر، ومن جهة أخرى لتفكيك حراك عائلات الأسرى الصهاينة وأنصارهم من دعاة عودة الأخيرين أحياء إلى بيوتهم.
يعبث “نتانياهو” وتحالفه الاستيطاني الديني المتطرف بالجميع، ويتحايل على الكلّ بما في ذلك “أمريكا” وإدارتها منقادا أوّلا وقبل كلّ شيء بدوام انسجام تحالفه الحكومي وبقاءه في كرسيّ الحكم بعيدا عن فتح ملّفاته القضائية المتّصلة بالرشاوي والفساد زيادة عن مسؤوليته الكبيرة يوم 7 أكتوبر وبعدها.
يواصل “نتانياهو” اللّعب على حبلين كما يقال، فهو من ناحية ماضٍ حتّى النهاية في ملاحقة أوهامه القائمة على سحق المقاومة وتتبّع جيوبها الأخيرة حسب زعمه بالقول: “النّصر قريب منّا وهو في رفح… لن تدوم مناورتنا البرّية سوى أسابيع…”، وهو من ناحية أخرى وفق تصريحه للقناة 12 التلفزية “مسكون بلوعة بقاء المختطفين لدى حماس الداعشية… أنا حريص على عودتهم بالحرب أو بالدبلوماسية التّي تتماشى مع دولتنا القويّة…”.
هكذا يكذب “نتانيهو “على أقارب الأسرى ومجتمعه ويواصل اجتماعات مجلس الحرب المصغّر وحكومته الموسّعة تحت عناوين تدارس ردّ “حماس” منذ أيّام على مقترحات “باريس2” بقصد إرسال وفد تفاوضي للدّوحة من جديد ولم يغب عنه مثل كلّ مرة استباق المحادثات ببعض التصريحات والإجراءات المعسّرة لإمكانيّة تقاربات.
فهو أعلن حتى قبل انعقاد “كابينات الحرب” بأنّ المطالب المتضمّنة في ردّ المقاومة “خياليّة…”، وأضاف “لا وقف لأعمالنا الحربيّة قبل القضاء على كتائب حماس الأربع في رفح… والتخلّص نهائيا من السّنوار ومحمد الضيف…”، وأردف تصريحاته بجملة من الإجراءات المعطّلة من قبيل تهميش بعض أعضاء مجلس الحرب المعروفين بدفاعهم عن أولويّة تحرير الأسرى الصهاينة (إيزانكوت، بني غانس..) أو في تغيير تركيبة الوفد المفاوض وإرساله بصلاحيات مضيّقة على عكس ما أراده البعض من هذا الوفد وخصوصا ممثّلي الأجهزة الأمنية.
فالوفد الذي توجّه إلى العاصمة القطرية تحت أعين المستشار السياسي لرئيس الحكومة ومجال تصرّفه محدَّد بخطوط حمراء ترتكز على رفض الوقف النهائي للعدوان وانسحاب قوّات الجيش الصهيوني من داخل القطاع مع توصية بالتشدّد أكثر ما أمكن في التقليص من أعداد الأسرى من ذوي الأحكام الثقيلة الذين تطالب “حماس” بإدراجهم ضمن صفقة التبادل.
إنّ مجمل هذه الخطوط الحمر التّي يلتفّ حولها كواسر الحكم في الكيان (نتانياهو، غالانت وزير الحرب، ووزراء اليمين المتطرف) تدفع إلى الاعتقاد بأنّ مسار المفاوضات طويل ومعقّد وليس مستبعدا أن تكون نهاياته مرّة أخرى الفشل بالرّغم من ردود المقاومة المصاغة بروح مسؤوليّة وطنية عالية ونضج تكتيكي كبير أحرج حتّى الإدارة الأمريكية التّي وجدت نفسها مجبرة على التّصريح علنا عن طريق وزارة الخارجية بالقول: “ورقة حماس تندرج ضمن الإطار العامّ للمفاوضات…”.
فتعاطي المقاومة، وفق ما رشح من ورقتها، انبنى على تثبيت ثوابتها الوطنية المتمثّلة في الوقف التّام للعدوان مع انسحاب القوّات الغازية وحرّية حركة النازحين في كلّ الاتجاهات وتدفّق المساعدات الإنسانية من الشمال إلى الجنوب بالقطاع المنكوب.
والملفت للانتباه أن المقاومة صاغت جميع مطالبها تلك بدّقة متناهية تراعي التدرّج الزمني في الوصول لأهدافها. فالورقة قدّمت تصورّها مكتملا ينقسم إلى 3 مراحل مدّة كلّ واحدة منها هدنة بـ42 يوما تتخلّلها بعض الاستحقاقات (تبادل أسرى وفق عدد مضبوط، انسحاب جيش الاحتلال بالتدريج، فتح المعابر وعودة اللّاجئين).
لقد أعطت المقاومة فرصة جديدة لنجاح المباحثات وألقت كما يقال الكرة في ملعب الكيان الذي دخل ولا زال المفاوضات دون النّظر لحقائق الميدان ومعاركه.
فوقائع الأرض تؤكّد علوّ يد المقاومة وقدرتها الأسطورية على الصّمود في وجه آلة البطش والدّمار التّي عجزت عن تحقيق منجزات عسكرية باعتراف شريكتها في الجرائم “أمريكا”، زيادة عن إقرار أجزاء واسعة من النخبة العسكرية والأمنية والإعلامية في الكيان الصهيوني بالمستنقع المميت الذي علقت فيه قوّاتهم.
فحكومة “نتانياهو” مندفعة إلى مواصلة الحرب تراكم الهزائم والخسائر وتنخرط بتكاسلٍ في المفاوضات وفق تقديرات واهمة مرّة أخرى ترتكز على استعمال السّياسة والمفاوضات لتحقيق ما عجزت عنه الأسلحة.
إنّ كلّ ما يرشح من كواليس مفاوضات هذه الساعات يشي بأنّ لا جديد من وراء الأبواب المغلقة سوى جولات إضافية من مجازر جديدة ضدّ الأطفال والنساء والمدنيّين بصفة عامّة.
والحقيقة التّي لا يرقى إليها شكّ أنّ دولة الكيان في انتظارها أيام عسيرة تحت “حكومة المجانين” وفق توصيف “لابيد” أحد وجوه “المعارضة الإسرائلية”.