بقلم حمه الهمامي
تقديم: في سبتمبر 2006 كتب شقيقي ورفيقي في حزب العمال، المناضل والشّاعر والجامعي، الراحل الطاهر الهمّامي مقالا مرجعيّا حول المقاومة في لبنان وحزب الله صبّ فيه جام نقده على “مسّاحي أحذية” العدو الصهيو-امبريالي الذين هاجموهما انطلاقا من ما قبليات إيديولوجية لتبرير خيانتهم. وهذا المقال يكتسي في هذه اللحظة ونحن نحيي يوم الأرض، راهنيّة كبرى، فهو ينطبق بشكل غريب على الواقع الحالي الموسوم بمعركة طوفان الأقصى المجيدة والمواجهة الكبرى مع الكيان النازي، والذي يحمل الملامح الكبرى لذلك العام الذي واجهت فيه المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله العدو الصهيوني المدعوم أمريكيا. وبما أننا أحيينا قبل ثلاثة أيام أي يوم 25 مارس/آذار الذكرى 77 لميلاد الشقيق والرفيق الطاهر الهمّامي ارتأيت بل سمحت لنفسي التصرّف في مقاله بتغيير بعض معطياته بمعطيات الساعة وإعادة نشره فيقيني أنّه لو مازال على قيد الحياة لفعل نفس الشيء سواء بإعادة صياغة مقاله أو كتابة مقال جديد يحمل نفس السمات.
(1)
ينبغي أن يكون المرء عديم البوصلة مرتهنا بالمشروع الامبريالي-الصهيوني كي لا يرى، في هذا اليوم، يوم الأرض، فضل المقاومة الفلسطينية الباسلة ولا يثمّن إنجازها غير المسبوق الذي انطلق يوم 7 أكتوبر/تشرين الثاني 2023 ولا ينحني تعظيما لمقاتليها الأشاوس وإجلالا لأرواح من أقدموا على التضحية.
ينبغي أن يكون جبانا ولئيما كي يجرؤ على الاستخفاف بقيمة مثل التضحية ويعتبرها مجرّد تقديم “أضاحي” ومحض عبث، ويشكّك في نزاهة ووطنية وتفاني أولئك الذين اختاروها طريقا إلى الحرية والاستقلال والكرامة والعزّة، بل ما قيمة الحياة إذا خلت من التضحية والطريق إليها مليء بالأشواك والآلام في عالمنا الراهن، وما وقيمة الإنسان بلا نكران ذات وبلا إيثار؟ وهل كان في مقدور الشعوب والأمم أن تواجه الاستعمار وتكسّر قيود الاستعباد والاستبداد وترفع رأسها لولا التضحية؟ وهل كان أحد يلجأ إلى التضحية بحياته إلّا اضطرارا وبعدما انسدّت السبل أمامه وتعذّر الخلاص.
خبّريه يا جزائر… خبره يا فيتنام… خبّره يا وطن مانديلا… خبّريه يا شعوب العالم…
(2)
وينبغي أن يكون المرء لاعبا سيّئا أو ألعوبة أو متلاعبا مبتدئا كي يتهجّم على المقاومة وهي تقلب “قوانين اللعبة”، ويا لها من “لعبة”، وتلحق بالعدوّ النازي أذى استراتيجيا وتحلّ من وجدان النّاس محلّا مميّزا وقد تنفّسوا الصعداء من جديد بعد دهر من القهر وتُحيي لديهم الأمل الذي كاد اليأس يميته، ولا أحد لو كان سقراط في مقدوره أن يقنعهم بعكس ذلك وأن يؤلّبهم ضدّ المقاومة وضدّ “حماس” لمجرّد كونها “أصوليّة المنظور”. لقد أدركوا – عن طريق الحسّ أو عن طريق الوعي – طبيعة المعركة وحجم الهجمة وأن قيادة المقاومة احتكمت إلى الرأي احتكامها إلى شجاعة الشجعان حين حشدت جميع القوى الوطنية بالداخل الفلسطيني والخارج العربي والعالمي لقطع الطريق أمام “العرب الصهاينة” المهرولين نحو التطبيع، وحلّ التّناقض الرئيسي عبر دحر الاحتلال واسترجاع السيادة على كلّ شبر من الأرض المغتصبة وردّ الأطماع، متجاوزة الاعتبارات الثانوية، الأيديولوجية والدينية والمذهبيّة، التي لا تمنع من التعايش في صلب المجتمع الواحد والوطن الواحد المحرّر، وليس من شأنها أن تحول دون الاتّحاد على ثوابت الحرية والاستقلال والعدل والكرامة، أي ثوابت السياسة الوطنيّة.
(3)
ليس في مقدور أحد مهما أوتي من بلاغة “البنيوية” و”التفكيك” و”الهرمنطيقا” أن يشوّه صورة المقاومة التي ردّت الرّوح ورفعت الرّأس والرّاية وأن يقنع ضحايا المجازر وحرب الإبادة التي ما انفكّ الصهاينة والأمريكان يرتكبونها، والبيوت التي يدمّرونها على رؤوس أهلها والمستشفيات التي يحوّلونها إلى ركام على رؤوس المرضى واللاجئين العزّل، ودور العبادة التي يقصفونها بالمئات والسجون – العلنية والسرية – التي ينتهكون فيها أبسط حقوق الإنسان، بكون أمريكا حمامة و”إسرائيل” يمامة وبإمكان ارتداعهما وإذعانهما دون مقاومة تجبرهما على ذلك سواء في فلسطين أو في لبنان أو في العراق أو في اليمن أو في سوريا أو في أيّ بلد آخر من بلدان العالم الواقع تحت طائلة الأمركة والصّهينة، ألم يسبق لشاعر “إرادة الحياة” (أبو القاسم الشابّي) أن عبّر عن هذه المعادلة تعبيرا جامعا مانعا حين قال قبل أكثر من ثمانية عقود:
لا عدْلَ إلّا إذا تعادلتِ القوى
وتصادمَ الإرهابُ بالإرهابِ
(4)
وينبغي أن يكون المرء ضعيفا في الحساب حتّى يعوّل على الأغاليط والمغالطات لتشويه تلك الصورة ومنها اختزال المقاومة في “حماس”، وهي تضمّ فصائل أخرى تقاتل إلى جانبها وتقدّم الشهداء، ومنها اختزالها في عقيدتها الدينيّة وعلاقاتها الخارجيّة وقد أثبتت حتّى الآن أنها قوّة وطنيّة فلسطينيّة تتصدّى للاحتلال الغاشم وتقاوم طالما الاحتلال قائم وطالما الكيان النازي يهدّد وينفّذ ويجتاح ويقتّل ويدمّر ويأتي حتّى بما لم يأت به الوحش النّازي، وطالما ليس هناك الدّرع الذي يقي والدّفاع الذي يواجه، وفي ذات الوقت برهنت على كونها والجهاد الإسلامي وغيره لتكتيل الجبهة الوطنيّة. وإذا كانت حاجة فلسطين اليوم تدعو إلى وحدة جميع الفصائل ضدّ المحتل الغاصب وعلى قاعدة البرنامج الوطني فعلام تشتيتها بالمصادرات الإيديولوجية وقراءة النّوايا وتحكيم الاعتبارات الاستراتيجية البعيدة؟ المقاومة ليست معصومة ولا هي وثن للعبادة. و”حماس” ليست بمنأى عن النقد اليوم وغدا ولا عن الخطإ مادامت تنشط وتمارس، لكن خلاف الغد لا يفسد وفاق اليوم والصّراع على الفكر والرّؤية والمشروع لا يحول دون الاتّحاد على أساسيات الوطن وآليّات حلّ الخلافات ثمّ إنّ من يستبسل في مقاومة الاحتلال والتصدي للعدوان وحرب الإبادة هو الذي يفوز عادة عندما يحين وقت الاحتكام إلى صندوق الاقتراع في ظلّ وطن محرّر، وهو الذي يتولّى قيادة المجتمع فعلام لا ينهض المتفرّجون الذين يشكّكون ويهاجمون ويشوّهون – من أرائكهم وصالوناتهم – المقاومة وفي مقدمتها “كتائب القسّام” كي ينخرطوا في المعمعان ويضطلعوا بأعباء تقرير المصير؟ أمّا أن يحاولوا صرف المقاومة عن المقاومة لإنقاذ “ديمقراطية أمريكا” و”سلام إسرائيل” فذلك أمر “دونها بيد… دونها بيد”.
(5)
ثمّ ينبغي أن تكون “صبّاغ أحذية الغزاة وبائع الدّم والضّمير” كي توحّد لغتك بلغة بايدن و”الناتن-ياهو” في اتهمامها حركة المقاومة الوطنيّة بالإرهاب وفي نفي حقّ مقاومة الاحتلال والتصدّي لإرهاب الدّولة الذي يمارسانه وفي ركوب الخطاب المثير للنّعرات الإيديولوجية-الدينية-الطّائفية خاصة مع انخراط مختلف فصائل المقاومة في المنطقة (لبنان، اليمن، العراق) في “توحيد الساحات” ضد العدوّ المشترك، بدل التعبير السياسي عن التّناقضات الحقيقية، ويا ليت العطف الذي أبديته أيّها الغبيّ، المنافق، الذّليل، عن “المدني الإسرائيلي” أبديت مثله على المدني الفلسطيني (أو اللبناني أو العراقي أو اليمني)، على الطفل/المرأة/الرجل الغزاوي/الغزّاويّة الذين تتطاير أجسادهم أشلاء وتنساب دماؤهم سيولا في كل شبر من غزة أو “ترفس” تحت الركام في كل حيّ من أحيائها، رغم الفارق الذي يفرّق بين المعتدي وضحية عدوانه، بين “المدني الإسرائيلي” وهو “مستوطن، محتلّ”، ثمّ علام لا تطرح السؤال من المحتلّ؟ وهل يحقّ طرده واسترجاع الأرض السليبة وتحرير الأسرى بجميع الوسائل أم الحلّ في الخضوع لمشيئته وانتظار رحمة “المجتمع الدّولي” و”عطف الأمم المتّحدة” و”بلاغ من جامعة عربيّة” “سرّع اللّه زوالها”؟ ومن المسؤول عن عدم تحقيق “السلام” و”إحلال الوئام” في المنطقة؟ أراك تشير أيها المتغابي إلى المقاومة، وتحديدا “حماس” وفصائل المقاومة الأخرى التي يراد اليوم سحقها وذا هو الحول بعينه، بل ذا هو سُكْر الهوى الصهيوني يحول دون رؤية الحقّ الساطع والحقيقة الدّامغة؟
(6)
هل ما زال من يسأل عن عقيدة جورج حبش وهو يقع في قبضة سحر خطابه وحدسه السياسي الخلّاق والتزامه الأسطوري بقضية وطنه وشعبه؟ وهل ما زال من يسأل عن طائفة المطران هيلاريون كبوتشي الذي كان ينقل السلاح إلى المقاومة ويردّد أن “ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة”؟ فكيف ما يزال من يسأل عن عقيدة حماس وميولاتها الإيديولوجية وهو يرى الدور الذي تضطلع به إلى جانب فصائل المقاومة الأخرى في ردع العدو الصهيوني وردّ عدوانه ورفع رأس الأمة وإعلاء رايتها ويقف على شواهد الاقتدار الذي يدير به قادتها المعركة غير المتكافئة المستمرة منذ قرابة نصف العام بينما انهزمت جيوش ستة أنظمة عربية في ستّة أيام في عدوان 1967؟
إن كافة التناقضات تخضع حين تبدأ المعركة الوطنية وتشبّ حرب التّحرير لتناقض رئيسي واحد يفصل بين الوطن قاطبة (ما عدا حفنة العملاء) على اختلاف مذاهبه وطوائفه ورؤاه الفكرية والاستراتيجية وبين المعسكر المعادي بل تعمل قيادة المقاومة صاحبة الحنكة على شقّ الصفّ المقابل وتركيز مرمى السّهم وتحييد أو كسب من يمكن تحييده أو كسبه سواء في الساحة الداخلية أو الخارجيّة وبعبارة الأدبيّات السياسيّة فإنّ سياسة الجبهة الوطنيّة تغدو ضرورة قصوى وضمانة أساسية للنّصر، سواء كان ذلك على المستوى القُطري أو القومي أو العالمي لمّا تتوفّر شروطها وشروطها أوّلا مناهضة الوصاية الأجنبيّة ورفض الاحتلال والحرص على تحقيق السيادة والاستقلال ولا نشكّ في كون الهجوم الصهيو-امبريالي الغربي وقد عرّى وجهه البشع والمتوحّش في هذا العدوان الهمجي على غزّة والشعب الفلسطيني عامّة يفرض على كل الوطنيين في فلسطين وفي كل البلد العربي الواحد أن يشد بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، وفي مجموع البلدان الأخرى أن يتنادوا ويشكّلوا قطب الشعوب أو حلف الشعوب القادر على رفع التحدّي مباشرة بفرض وقف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزّة دون شروط وعودة النازحين إلى ديارهم وفتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانيّة لوضع حد لحرب التجويع التي ينتهجها الكيان النازي وإعادة الإعمار وبناء المستشفيات، وعلى المدى الاستراتيجي بمراكمة القوى التي تسمح بقبر الحضارة الرأسمالية المتهاوية التي لا تتوانى عن تدمير البشر والطبيعة على حدّ سواء وإقامة مجتمع إنساني قائم على العدل والمساواة ونفي استغلال الإنسان للإنسان.
فهل نقف قريبا وبعد هذا الزّخم العالمي الهائل على وضع يشبه وضع الجبهات التي قامت عشية الحرب العالمية الثانية ضدّ الوحش النازي والفاشي؟ إن الشعوب هي التي تدافع عن الشعوب. هذه الحقيقة التي برزت من قبل وتبرز اليوم في مختلف أصقاع العالم فهل وصلت الرسالة إلى “النخب” أو “الطلائع الحية” في مختلف البلدان وفي مقدّمتها البلاد العربيّة كي تقوم بدورها وتكسب معركة الوعي وتعبّئ الشعوب ضدّ قوى الشرّ الاستعماري الامبريالي الصهيوني وضد توابعها وعملائها من حكام وأقلّيات اجتماعية تنهش لحم شعوبها؟
إلى الشوارع في يوم الأرض من أجل وقف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني فورا
إلى الشوارع من أجل نصرة أطفال غزة ونسائها وشيوخها وديارها ومستشفياتها ومقدساتها
إلى الشوارع من أجل فتح المعابر
إلى الشوارع من أجل تجريم التّطبيع مع الكيان الغاصب وغلق سفاراته وطرد سفراء “رأس الحية”
فلسطين أرض لا تتجزّأ وشعب لا يتجزّأ