بقلم: حمّه الهمّامي
كتبت بداية الأسبوع المنقضي تدوينة طالبت فيها بإطلاق سراح الإعلامي محمد بوغلّاب. وقلت إنّ السّبب الحقيقي لاعتقاله سياسي وأن القضيّة المنسوبة إليه ما هي إلّا ذريعة لإيقافه لذلك السّبب لأن الفعل المنسوب إليه لو صحّ لا يتطلّب في كل الحالات الزج به في السجن. فما كان من سقط متاع “الحشد الفاشي” إلّا أن سبّوا وشتموا مستعملين نفس أسلوب العادة: فمن مدّع أن “فلان” الذي “دافع في السابق عن “الإخوان”، يدافع عن شخص ورد اسمه في “الكتاب الأسود” أي عن “زلم من أزلام” نظام بن علي، إلى مدّع أن “فلان” يدافع هذه المرّة عن أحد “عملاء الناتو”، إلى مدّع ثالث بأن “فلان” يدافع عن “واحد يخدم في أجندات خفيّة”…إلى غير ذلك من الهراء.
إن هؤلاء “الساقطين والسّواقط والسقّاط” (العبارة للشاعر الراحل الطاهر الهمّامي) هم من أبشع ما يوجد في زمن الاستبداد للدور القذر الذي يقومون به. فهم يتولّون، بأجر أو طمعا في أجر أو في “لفتة كريمة” أو تزلّفا بدافع الخوف من محاسبة، تبرير انتهاك الحرّيات والحقوق الأساسيّة ومغالطة الناس وتربيتهم على الحقد والشماتة لتفريق صفّهم وتأليب بعضهم على بعض وحرفهم عن أي مبدأ أو قيمة بما يسهّل التلاعب بنفوسهم وتوظيفهم ضد مصالحهم الدّنيا وإطالة عمر المستبِدّ بهم. وهم لا يثبتون على حال ويتمتّعون بقدرة فائقة على التلوّن لا كالحرباء (حاشا الحرباء فألوانها من الطبيعة) وإنّما كالماء الآسن (الغرَمْ) الذي تسطع فيه الشمس فلا تفهم له لونا عدا شمّ عفونته.
ففي هذا “الحشد” من يتجلبب بجلباب “الثّورجي المتطرّف” فيردّد مزهوّا: “لا يردّ فاس على هراوة” متظاهرا بالتباين مع “الرجعيين قاطبة”. وفيهم من يلتفّ بلفاف “الوطني الغيور” فيردّد منتفخ الأوداج كالطاووس: “لا لمساندة العملاء”، وفيهم من يتجلبب بجلباب الطّهر فيقول بلغة المتعفّف وبصوت خافت تعلوه ابتسامة خبيثة محاولا صبغها ببراءة كاذبة: “وهل لنا أن ندافع عن فاسد؟”، وفيهم من يركب حصان المساواة إذا تعلّق الأمر بسيّدة ويصرّح تصريحا مهيبا: “لن نقبل الإساءة إلى المرأة التونسية” وهو يسكت عن دوس حقوقها يوميّا. وفيهم من “يتجاوز” عشقه للقضية الفلسطينيّة عشق “أبو عبيدة” فيصرّح: “أنّى لكم أن ترأفوا بمتصهين فليذهب إلى الجحيم…” وفيهم من يتظاهر باتّزان كاذب ومعقولية زائفة ويعلّق: “حتّى هو “فلان” كثّرلها”…
ومهما تعدّدت “الألوان” فإن الهدف يبقى واحدا وهو إيجاد الذريعة للانتهاكات التي يرتكبها المستبدّ. وهو ما يدمّر المجتمع ويعطّل نموّه ويحرم غالبيّته المستغَلَّة المضْطَهَدة من طعم الحرّية والعدالة. إن المبدئيّة الصّارمة لا تظهر أبدا في دفاعك عن الصديق/ـة فذلك أمر منتظر قد تحرّكه المبادئ كما يمكن أن تحرّكه الحميّة الذاتيّة من باب “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”، وإنّما تظهر في دفاعك عن الحقّ حتى عندما يتعلّق الأمر بخصمك. إذا كنت من أهل المبادئ والقيم ومن أنصار الديمقراطيّة والمدنيّة لا الاستبداد والتوحّش، لا يمكنك أن ترفض التّعذيب في حالة وتقبله في حالة أخرى. ولا يمكنك أن تقبل افتعال القضايا لأن الضحيّة خصمك فتتبنّى منطقا أعرج: “لا ترد فاس على هراوة”. ولا يمكنك أن تقبل الظّلم لأن المظلوم يخالفك الرأي أو ينافسك على موقع أو حتّى يعاديك. ففي ارتكابك أيّا من هذه الحماقات تتواطأ مع الاستبداد وتسهم في تدمير مجتمعك ووطنك علاوة على كونك تجهّز لليوم الذي ستسقط فيه الهراوة على رأسك.
نحن دافعنا طوال عقود عن أكثر من خصم سياسي ونقابي وإعلاميّ، لا لأنّنا نشاطره الفكر والمواقف أو نتبنّى ممارساته بل لأنّ استهدافه لا تحرّكه إشاعة الحرية في المجتمع وتأسيس الديمقراطية أو محاسبة عادلة على جرم، وإنما لأنه فِعْلٌ من أفعال دكتاتور/مستبدّ يروم تصفية خصم أو منافس مقلق بقطع النظر عن اتجاهه لإزاحته من طريقه كي يبسط هيمنته على الجميع. دافعنا وما زلنا ندافع عن حق هذا أو ذاك في محاكمة عادلة وبناء على أفعال ثابتة ومثبتة رفضا لكل توظيف لأي قضية وكل مغالطة للرأي العام لتحقيق مآرب على حساب النّاس بل على حساب وطن بأكمله. ونحن إذ نرفض هذه الأساليب البائسة فلأنّنا نريد مصارعة خصومنا ومخالفينا في الرأي بأسلحة فكريّة وفكريّة فقط لأنّ في ذلك مصلحة للوطن والشّعب والمجتمع، لأن مثل هذا النقاش/الصراع/الجدل الحرّ حتى لو شابته سلبيات هو الذي يحرّك تطوّر مجتمعنا.
كما أننا دافعنا عن أكثر من إعلامي/ـة. دافعنا عن زياد الهاني ونزار بهلول وزياد كريشان وهيثم المكّي ومنية العرفاوي وسنية الدّهماني وغسّان بن خليفة ورضا الكافي ونور الدين بوطار وخليفة القاسمي وشذى بلحاج مبارك وغيرهم كثير، إعلاميّا كان أو مدوّنا وطالبنا ونطالب بإلغاء المرسوم 54 الفاشستي. ودفاعنا هذا نابع من عقيدة لدينا ما انفكّت تحرّكنا وستظلّ تحرّكنا وهي أنّنا في دفاعنا عن هؤلاء وعن محمّد بوغلّاب وكل من سيأتي “عليه الدّور” إنّما ندافع عن أنفسنا وعن المجتمع بأسره لأن تلجيمهم مقدمة لتلجيمنا وتلجيم المجتمع بأسره مع علم أنّنا تعرضنا طوال عقود للتلّجيم وذُقْنَا كافّة أساليبه بما فيها التعذيب الهمجي والسّجن وغير ذلك من الأساليب والأدوات التي استنبطتها غرائز الطغيان البدائية والوحشية دفاعا عن مصالح أقليات لا همّ لها سوى تكديس الثروة على حساب غالبيّة النّاس.
وحتى لا نترك ثغرة يتّهمنا منها “السَّاقِطون والسّواقط والسُقّاط” بأنّنا “نشرّع” لانتهاك حرمات الناس تحت غطاء الدفاع عن حرية الفكر والتعبير أو بأنّنا نعتبر أنّ ثمّة من “على رؤوسهم ريشة” لا يمكن المساس بهم على حساب “المواطن البسيط المجهول” (anonyme) الذي يتأذّى دون أن يسمع به أحد (وهي “لَغْمَجَة” شعبويّة رائجة هذه الأيام لتبرير القمع فالت العقال). إنّ ما يدخل في باب الجريمة (التحريض على العنصرية والكراهيّة، الدفاع عن التمييز بين المواطنين بسبب جنسهم أو عقائدهم وقناعاتهم، انتهاك الأعراض والتشويه الخ….) ينبغي أن يحاسب مرتكبه. ولكن لا ينبغي بأي شكل من الأشكال التذرّع بوجود مثل هذه الجرائم لتصفية حرّية التعبير. فمن عقيدتنا أن حرّية تشوبها سلبيّات أفضل من استبداد يقْضِي على تلك الحرّية بدعوى “مكافحة مساوئها”…
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن ضمانة المحاسبة الجدّيّة والعادلة تكمن في وجود دولة القانون فهي وحدها التي تمثّل الإطار المناسب لصيانة الحرية وتوسيعها وتعميقها. ومن شروط دولة القانون هذه أن يكون قانونها عادلا، لأن الفاشست والطغاة والعنصريين لهم قانونهم أيضا ولكنّه ليس عادلا بل جائرا يصون مصالح الأقلية ضد مصالح الأغلبية المستَغَلَّة والمقهورة. ومن الشروط التي تحقّق دولة القانون العادلة أيضا قضاء مستقل ونزيه لأن أنظمة الطغيان الطبقية لها قضاؤها ولكنّه قضاء تعليمات يكرّس الجور والميز ولا يسلّط عقوباته إلا على عامّة النّاس وعلى معارضي تلك الأنظمة ومنتقديها والثائرين عليها. وإلى ذلك فإن التجاوزات التي تحصل في إطار مجتمع الديمقراطي القائم على عدالة اجتماعية حقيقية يمكن التصدي لها في إطار الحرية وبسلاح الحريّة وهو ما يساعد على تطوير الديمقراطيّة داخل المجتمع وتحويلها إلى جزء من ثقافته بما يجعله يتمسّك بها ويدافع عنها ويتصدّى لكلّ من ينتهكها. أما الاستبداد فهو يقضي على الحرية من أصلها ويزرع الخوف في المجتمع ويربّي الناس على الخنوع يل على أخلاق العبيد وهو ما عملت أنظمة الاستبداد في بلادنا ماضيا وحاضرا على زرعه بمساعدة “السّاقطين والسواقط والسقّاط” الذين لا يتكاثرون إلّا في أزمنة الاستبداد، لأنّ ظروف الحرّية تقضي على مهنتهم المُشِينة.
إن هؤلاء السّفلة هم الوحيدون الذين يحملون على رؤوسهم ريشة في مجتمع الاستبداد فتراهم يكذبون ويشتمون وينتهكون الأعراض في وسائل الإعلام وعبر الشبكة الاجتماعيّة دون أن يحاسبهم أحد بل إنهم يُكَافَؤُونَ على نذالتهم تلك. وبالمقابل تُكمّم أفواه المعارضين والمنتقدين بكل نزعاتهم حتى لو كانت يمينية، ويُحاط ذلك بدعاية ديماغوجيّة، شعبويّة تزعم أنّ في تكميم أفواه هؤلاء “تحقيقا للعدل والمساواة”. وما من شك في أن الضرر الأكبر الذي يلحق المجتمع وتحديدا قواه الحيّة من تكميم الأفواه هو قتل الإرادات. إنّ مجتمعا فوق رؤوس وُشَاتِه وانتهازِيّيه ومتزلّفيه ومنتهكي أعراض نخبه “ريشة” إنما هو مجتمع مأزوم لا أفق له في المدى المباشر فما بالك بالبعيد، مجتمع مأزوم في حاجة إلى تغيير جذري. إنّ المجتمعات المتقدّمة التي راكمت المكتسبات الحضارية بفضل كفاح شعوبها وتضحياتها وإسهامات طلائعها في الفكر والاقتصاد والاجتماع والعلم والثقافة نراها تضع أوّلا ريشة على رأس كل مواطن/مواطنة من مواطنيها بضمان حقوقه الأساسية.
ولكنها لا تكتفي بذلك فهي تضع “ريشة” مخْصوصة على رأس كل فرد من أفراد نخبها في مختلف القطاعات الحيوية كالصّحافي والقاضي والمحامي والمبدع ونائب الشّعب الخ… وهو ما يتم عبر وضع قوانين تحميهم من تسلّط الحكام وأجهزتهم القمعية حتّى يقوموا بدورهم بكلّ اطمئنان. والأعظم من ذلك أنّها تضع ريشة أكبر على رأس كل مبدع من مبدعيها/مبدعاتها في أي مجال من المجالات معتبرة أنه/ـها يسهم/تسهم في الارتقاء بحضارتها والحضارة الإنسانية قاطبة فتخّصه/ـها بحظوة مميّزة وتضع على رأسه/ـها “علم من نار”. أمّا المجتمع الذي ينهشه الاستبداد فنظامه يضع ريشة مزيّفة على رأس مدمّري عوامل مناعته وفي مقدمتها الحرية فإذا به لا ينتِج غير التفاهة والهرج والمرج. إن مجتمعا ينتج مسلسلا حول “علي شورّب” وفلما حول “سفّاح” نابل ولا يلتفت إلى الدغباجي والشّابّي والحدّاد وحشاد وغيرهم من صانعي هويّة هذا الوطن إنّما هو مجتمع فاشل من رأسه الذي يخلق المناخ والإطار لارتكاب هذه الفظاعة خدمة لمصالح أقلية، إلى قاعدته التي تسمج بذلك ولا تنتفض لتغيير الواقع بسبب الوعي الذي يتأخّر عن المجيء.
وفي المحصلة:
نحن حين نرفض الاستبداد والجور مهما كان ضحيّته إنّما نفكّر في/ ونعمل من أجل/ بناء وطن ومجتمع جديدين خاليين من أي استلاب فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي.
ونحن نعتبر أنّ الطّريق إلى ذلك هو الحرّيّة والديمقراطيّة اللّتين تحرّران طاقات الشعب المكبّلة وتدفعان سيره نحو تحقيق أهدافه العامّة.
تونس، في 28 مارس 2024