مثّلت منذ عقود ومازالت مقولة “تتغيّر الإدارات بالبيت الأبيض والسياسات واحدة” البوّابة الأفضل لكلّ القوى الوطنية والثّورية بالوطن العربي لاستعادة الأمل، لكنه الحقيقة الموضوعية للسياسات الأمريكية المتعلّقة بمنطقتنا وتحديدا بقضية الشعب الفلسطيني وحقّه المطلق في التّحرّر النهائي من هيمنة الاحتلال الاستيطاني العنصري بما يضمن بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة الديموقراطية فعلا والضامنة لكافّة شروط بسط سيادتها المطلقة على جميع جغرافيا فلسطين المعلومة بالوقائع التّاريخية التّي لا تقبل الدّحض أو التشكيك.
“أمريكا رأس الأفعى”
فرأس الأفعى، منذ النكبة في عام 1948 بعد تراجع الدّور البريطاني للمشرق، أخذت على عاتقها أهمّ مسلتزمات حضانة وحماية الكيان الصهيوني، من جهة، وتعزيز شبكات مصالحها الاقتصادية والثقافية والعسكرية المرتبطة دوما ببقاء أسوإ أنماط أنظمة العمالة والإستبداد والفساد التّي تدير شؤون شعوبنا بخيارات شاملة محدّدها الأساسي الحفاظ على الكراسي والمصالح الضيّقة تحت شعار لا ولاء إلاّ لسطوة أمريكا ولا طاعة إلاْ لعربدة الكيان الصهيوني، من جهة ثانية.
لقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية منذ عشرات السنين وفي محطّات كثيرة أبشع أنواع الجرائم على دول المنطقة وشعوبها، ولم تختلف تعاملاتها الفظيعة من الزاوية الجوهرية لا زمن حكم “الديموقراطيّين” ولا وقت هيمنة “الجمهوريين” (حرب 1967، غزو العراق، تدمير كلّ من ليبيا واليمن الخ…).
وبالعودة إلى أوضاع اليوم بغزة ومحاولة الوقوف على الدّور الأمريكي في حرب الإبادة الجماعية الممنهجة التّي يكاد يحصل شبه إجماع عالمي حول تفاصيلها وأشكالها غير المسبوقة في التاريخ المعاصر بالنّظر إلى كلفتها البشرية المروّعة وخسائرها المادية المفزعة يتأكّد من جديد بأنّ البيت الأبيض لم يكن فقط وفيّا للخيارات القديمة التّي تطرقنا لثوابتها أعلاه بل يمكن الجزم بأنّ إدارة الرئيس “بايدن” تجاوزت بكثير سقوف جميع من سبقوه حتّى أنّ أحد الإعلاميين من صحافيي “الواشنطن بوست” لم يجد حرجا في نشر مقال بتلك الجريدة عبّر فيه عن دهشته الكبيرة من هذا الإنخراط في “مستنقع غزّة وأنهار دماءها” وأضاف بعد أسئلة كثيرة عن دوافع ما أسماه” انغماس خطير… هو تعبير عن حالة فوضى إستراتيجية تقارب حالة الزهايمر التّي لحقت بسياستنا”.
بايدن دون حياء: “أنا صهيوني”
لقد نزع” بايدن” جميع المجمّلات الخادعة للحزب الديموقراطي التّي حاول عبر التاريخ التّخفّي وراءها لإنعاش الأوهام وسط النخب الليبرالية العربية وبعض تعبيراتها السياسية المسكونة دوما بحلول “الخير” وتحسين الأوضاع مع الديموقراطيين.
فالإدارة الحالية منذ اليوم الأول لعمليّة طوفان الأقصى البطولية نزلت بكلّ ثقلها العسكري والمالي والديبلوماسي إلى جانب العدوّ الصهيوني ولم تلتزم طوال نصف عام بوظيفة الدّاعم أو المساهم بل قفزت إلى دفّة قيادة العدوان الإجرامي الهمجي.
فالرئيس “بايدن” الذّي بنى أمجاده في تاريخه السياسي الطويل على قاعدة خدمة المشروع الصهيوني الذي جاهر به منذ 1986 عندما قال: “لو كانت إسرائيل غير موجودة على الولايات المتحدة أن تخترعها”، سارع منذ الأيّام الأولى للعدوان على وضع كلّ مخزونات أسلحة بلاده الموجودة بالأراضي المحتلّة أو ببعض البلدان العربية على ذمّة جيش الإحتلال. بالإضافة إلى إقامة جسر جوّي وبحري متواصل حتّى أيّامنا هذه لمدّ عصابات القتل النازي بجميع أسلحة الدّمار والفتك (قنابل تزن أكثر من ألفي طن، طائرات آف 35…).
أكثر من ذلك، فقد هرول بنفسه في خطوة غير مسبوقة قياسا بسابقيه من رؤساء البيت الأبيض بزيارة الكيان زمن الحرب ولم يجد حرجا في القول علنا أمام شاشات التلفاز كلامه الوقح: “ليس ضروريا أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا”، وأضاف: “أنا صهيوني”!!!
فالرئيس فتح الطريق أمام رهن حكمه للتقاطر نحو الكيان والمجاهرة بوقاحة في خدمة الكيان الصهيوني، تلك الوقاحة التّي بلغت ذروتها فيما قاله وزير خارجيته “بلينكن” عندما صرّح: “هذه المرّة جئتكم أوّلا بصفتي يهودي (يقصد بطيبعة الحال صهيوني)، وثانيا بوصفي وزير خارجية…”!!!
والأنكى من ذلك أنّ “بايدن” ووزيري خارجيّته ودفاعه ورئيس المخابرات الخ… جميعهم حضروا اجتماعات “مجلس الحرب المضيّق” وناقشوا خطط العدوان وتطوّراته.
هذه المعطيات وغيرها تجعل من أمريكا “المايسترو الحقيقي” حرب الإبادة والتطهير العرقي ضدّ الشعب الفلسطيني الصّامد ومقاومته الباسلة.
فمايسترو القتل أقدم منذ الأيام الأولى للعدوان على الدّفع نحو غزة بسرب من فرقة “الدلتا” المتخصّصة في الأعمال القذرة (تنظيم إنقلابات، إغتيالات، تحرير رهائن الخ…)، وعزّز وجودها وفق تقارير إعلامية مختلفة وموثوقة بجنرالات متقاعدين وآخرين مازالوا تحت الخدمة العسكرية.
فالمايسترو ينهل من تاريخه الطويل القائم على إبادة الهنود الحمر بشتّى أنواع التقتيل ومن حروبه الإجرامية التّي لا تنتهي في أرجاء المعمورة، ويضع كلّ إمكاناته لضمان انتصار كلب حراسة مصالحه الإمبريالية بالمنطقة.
فهو حتّى هذا الوقت، بعد افتضاح العدوان وأهدافه وبعد تعدّد انكسارات الكيان وإخفاقاته على جميع الأصعدة، مازال متمترسا وراء مطاردة وهم الانتصار السّاحق على المقاومة وشعبها في غزّة.
فإدارة “بايدن” متمسكة بإطالة أمد العدوان وليس مستبعدا بالمرّة أن يكون إصرارها على الإمعان في ذاك النّهج مستقبلا أكثر حتّى من حكومة “نتانياهو”، تماما مثلما حصل في العدوان الصهيوني على “لبنان” و “حزب الله” عام 2006 حيث أجبر الأداء البطولي للأخير جيش الإحتلال على توسّل وقف المواجهات الذي قابلته أمريكا وقتها أوّلا بالرّفض وبعدها بالقبول الذّليل لشروط المقاومة.
أهداف أمريكا و”كلب الحراسة” (الكيان) متطابقان
وضعت أمريكا نفسها في أتون العدوان ضمن اتّفاق كامل مع الأهداف العامّة للكيان وحتّى بعض المناكافات التّي تعمل بعض وسائل الإعلام على النّفخ فيها وتهويلها لأهداف انتخابية أمريكية أو بهدف غايات تزويقيّة سياسية أمام شعوب العالم، فهي في أفضل الحالات خلافات تكتيكية مقتصرة على أسالبب إدارة القتل والتقتيل وتجنّب مزيد إلحاق ما تبقى من سمعة سياسية وأخلاقية وقانونية أضحت في أدنى مستوياتها، بل في الحضيض أصلا.
تتطابق مصالح المايسترو وكلب الحراسة في الفتك بالمقاومة وكلّ محورها وإعادة تحريك اتفاقات أبراهام الخيانيّة التّي أعاق سيرها “طوفان الأقصى” وبعثر جميع الحسابات المرتبطة بآفاق تطوّراتها المستقبلية.
فأمريكا تدير العدوان وتودّ التحكّم في بعض منعرجاته ونسقه وفق مصالحها التّي تتجاوز بطبيعة الحال حماية الدّور الوظيفي للكيان على أهميته الكبيرة ليشمل رعاية مصالح الإمبراطورية الكبيرة بالوطن العربي وتحديدا مشرقه في حين أنّ حكومة “نتانياهو” نتيجة أسباب سياسية، فيها ما هو شخصي وعوامل أخرى (السطوة الكبيرة للصهيونية المتطرفة ،العقلية الإنتقامية الخ…)، تدفع مقود الحرب نحو رعونة كبيرة واستخفافٍ متزايد يحصر المكاسب في حدود مصالح الكيان وبعض الإنجازات التكتيكيّة القابلة بسرعة إلى الزّوال والاندثار.