صوت الشعب صوت الحقيقة
بقلم شريف خرايفي
غادرنا منذ أسبوع الطبيب اللّامع، الرئيس السابق للمنظمة التونسية للأطبّاء الشبان.. رحل، في غفلة من أهله وأحبته ورفاقه وهو في أوج العطاء.
وقد حجّ مئات من أصدقاء جاد ورفاقه من كل جهات البلاد، بل ومن أقاصي المدن أيضا. ناهيك عن عشرات، إن لم نقل مئات الآلاف، تابعوا لحظة بلحظة، عبر بعض المؤسسات الإعلامية، أو الفايسبوك، موكب الجنازة من مسقط رأسه أم العرايس من ولاية قفصة إلى مثواه الأخير، وحتى كلمات التأبين المؤثرة من قبل خلانه ورفاق دربه.
لماذا تحوّل خبر الوفاة إلى حدث وطني؟
منذ الدقائق الأولى التي وصل فيها خبر وفاة الدكتور الشاب، حتى اشتعلت منصّات التواصل الاجتماعي، بين ناقل للخبر ومكذّب له وآخر مشكّك والبقيّة مذهولون.
في بضع ساعات انتقل روّاد الفايسبوك، بعد ثبوت الفاجعة، إلى النبش في مآثر الفقيد، فعجّت واجهات هذه المنصة بعشرات الفيديوهات والتسجيلات التي تروي مآثر الرجل وصولاته وجولاته، في الشوارع حيث يقود ويؤطّر مسيرات الأطباء ويخطب فيهم مفسّرا لمطالبهم المشروعة، ومحرّضا يشدّ همم زميلاته وزملائه من أجل الذهاب إلى الأقصى حتى يجبر السّلطة على الإذعان ومنح أصحاب الحق حقوقهم، وفي منابر الإذاعات والتلفزيون حيث يشرح بكثير من الأناقة والحماسة والسلاسة والدقّة، معا، أسباب الاحتجاجات وأهداف نضالاتهم، متبنّيا لمشروع في مجال السياسة الصحية مختلفة عن السائد، مشروع لفائدة غالبية التونسيين الذين يئنّون تحت وطاة الفقر والعوز والتهميش والأمراض، فليتجئون إلى المستشفيات العمومية حيث البنية التحتية مهترئة، والطاقم الطبي وشبه الطبي متواضع وضعيف غالبا، وحيث المعدات والآلات تشكو الأعطاب وقلّة الصيانة..
لقد كان للفقيد ردود ومقترحات عن كل هذه المشاكل.
أفكار الطبيب ومبادئه انعكاس لحياة الناس في مسقط الرأس
كل من يعرف أم العرايس، هذه المنطقة المنجمية العريقة، وكل من لفتت أنظاره، وهو يمشي خلف نعش الفقيد أو من وراء شاشة الهاتف، حقائق حياة الناس البسطاء في هذه الجهة، يدرك دون عناء الصّلة الوثيقة بين مبادئ الفقيد اليسارية ومشاعره الفيّاضة بحب الناس البسطاء، بين دفاعه عن الحق في صحّة عمومية راقية تليق بالإنسان وبين معاناة أبناء الجهة، كغيرهم من أبناء الشعب المهمّش، من الأمراض والأوبئة.
لم يكن جاد يستحق لقب “طبيب الفقراء” الذي أطلقه عليه آلاف التونسيين، وإنما أيضا لسان حالهم ومحاميهم ونائبهم الذي لم يسع وراء أي منصب أو موقع سياسي أو في السلطة، بل كان حاملا لهمومهم ومطالبهم ويمثل أملا للكثير من أولئك الذين “لا صوت لهم”. لقد كان الهنشيري طبيبا مشتبكا، وهب حياته ووقته للناس ولقضية الحق في العلاج العمومي وفاضحا لكل المؤامرات التي تحاك ضدّ القطاع الصحي العمومي من بعض أباطرة القطاع الخاص ولصوصه وممثليهم في مناطق النفوذ في السلطة والحكم.
جاد، شاب ليس ككل الشباب
وأنت تتابع حجم الحب واللوعة اللتان شيّع بهما التونسيون فقيدهم تدرك أنك أمام شاب لا يشبه مطلقا شباب هذا الجيل.. ففي حين انخرط آلاف الشباب في اليأس والإحباط والجريمة والانحراف، ومثلهم أو أكثر في ركوب قوارب الموت أملا في واقع أفضل ما وراء البحار، وفي حين اختار آخرون التطرّف والغوص في الدّجل والارتهان للغيبيّات، كان لجاد رأي آخر وطريق آخر. لقد انخرط منذ سنواته الجامعية الأولى في المنظمة الطلابية الاتحاد العام لطلبة تونس، فكان صوتا لأقرانه من الطلاب. ولم تحلّ التزاماته النقابية دون النجاح بتميّز في اختصاص الطب.
ثم، وهو حديث التخرّج من الجامعة، كان منذ أيامه الأولى قائدا لتحركات و احتجاجات عارمة، أربكت السلط، لما مثلته من ضغط وتعبئة لآلاف من العاملين في قطاع الطب العمومي.
إلى جانب كل ذلك، كان الفقيد متشبّعا بالأفكار التقدمية، حالما بالحرية والعدالة الاجتماعية وبالسيادة الوطنية.. ولكن أكثر ما كان يحرّك فؤاده وعقله وقلبه هو عشقه لفلسطين.. حتى إنّ كثيرين أرجعوا ما أصابه إلى حالة الغضب والحزن جرّاء ما يعيشه الشعب الفلسطيني من جرائم الإبادة والتطهير العرقي على مرأى ومسمع من العالم، وبتأييد امبريالي وتواطؤ عربي مفضوح..
لقد رحل عنا جاد الهنشيري، ولكن ترك وراءه حلما وأملا، من الواجب أن يحمله ويواصل فيه حملة أفكار الفقيد ومعتنقو مبادئه.
