بقلم يحيى يعقوبي
عيد الرّعاة: خصوصيات احتفالية ذات أبعاد سوسيوثقافية
يقام عيد الرّعاة سنويا وينظمه المركز الثقافي الجبلي بسمامة بقرية الوساعية التابعة لمدينة سبيطلة والذي تأسّس سنة 2012. ويحتفي المهرجان بمسلك الهْطايا حيث يضمّ مجموعة من الأنشطة تتراوح بين الندوات الفكرية والعروض الفنية المستلهمة من عادات وتقاليد السكّان في تلك المنطقة وتكريم الرعاة. ويمثل هذا المهرجان تجربة ثقافية فريدة من نوعها ليس فقط لاحتفائه بفئة تمثل قيما ثقافية مميّزة لزوّاره، وإنما في رمزية المكان الذي يقام به، خاصة بعد ما شهده من تحدّيات وأحداث إرهابية في السنوات الفارطة حيث كان مسرحا لمواجهات دامية بين الجيش التونسي ومجموعات إرهابية تحصّنت بتلك الجبال.
وقد التأمت الدورة 12 من عيد الرعاة في الفترة الممتدة من 18 إلى 21 أفريل 2024 والتي كانت وفيّة لتقاليد التظاهرة في الدورات السابقة من خلال استضافته لمشاركات من عدّة دول على غرار إسبانيا، إيطاليا، رومانيا، الكاميرون، الأرجنتين، بهدف التّشبيك والتعرّف على ثقافة الرّعاة ومُحاكاة موروثهم اللامادي. كما تضمّنت هذه الدورة عدة فقرات أخرى منها عرض مسرحية “المسافة صفر” والتي أشرف على إخراجها الفنان علي بالنّور وشارك فيها طلبة قرية اللغات بالمهدية، كذلك عرض فني موسيقي بعنوان “جولة في جبال الكون” بمشاركة فنّانين من الأرجنتين والتشيلي وغاليسيا وكاتلونا وسردينية ورومانيا، كما اختتمت هذه الدورة بعرض موسيقي من تقديم الإسبانية Esther Farge، و Lucercia Carrizo من إيطاليا وJuan Lopez Cano من الأرجنتين، بمشاركة رعاة سمامة تحت عنوان “غناية سمامة”، إضافة إلى عديد الورشات الفنية والحرفية وزيارات إلى المواقع الأثرية بالجهة. ومن المنتظر أن تزور جبل سمامة الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي يوم 29 أفريل 2024 للاحتفاء بها وبأثرها الأخير “تفصيل ثانوي” الذي كان سببا في سحب جائزة صالون فرنكفورت الدولي للكتاب على اعتبار الموقف الألماني الداعم للكيان الصهيوني والرافض لكل أشكال المقاومة والمساندة للقضية الفلسطينية.
ولعل من أهم أهداف المهرجان إحداث ثقافة سياحية بديلة بالجهات الداخلية والمناطق الريفية التي تقع على سفوح الجبال، ونظرا لما يميّز هذه التظاهرة من خصوصيات تحتفي بالرعاة وتثمّن الموروث الثقافي والحضاري وخلق التشبيك بينهم، فإن هذا ما يجعل هذا المهرجان الأول من نوعه في العالم العربي من خلال كونه يؤسّس لثقافة فعّالة بما هي مفهوم جوهري في السياقات الثقافية القائمة على مبدأ المشترك بين المجموعات البشرية ومتطوعين من الناس يتمّ انتقائهم من بين المترشحين من الناس العاديين لتقديم حكاياتهم وخصوصية تجاربهم ومن ثمة يتمّ الاشتغال معهم لاكتشاف المخزون الفني والإرث الثقافي النّابع من ذواتهم كأشخاص عاديّين وذاكرتهم الفردية والجمعية عبر نوع من التلقائية، من خلال الحفر في ذاتية الإنسان العادي الذي يشترك مع مجموعة العمل في إثراء التجربة التي تعتمد الصدام مع التراكمات الذاتية الاجتماعية الحاضرة مع الأساطير والتراكمات القديمة أي تمثلات الإنسان في واقعه الماضي. ولقد تمّ اعتماد هذا المنطق في تجربة مهرجان الرعاة للتكشف على العلاقة الحقيقية التي تربط الإنسان بالآخر في علاقتهما بالطبيعة الإنسانية المشتركة بوصف أن هذا الإنسان ينتمي إلى جماعة ذات رابط روحي سيكولوجي أنتج في حقل اليومي ولكنه بحاجة إلى تجاوز التطبيقات الاجتماعية والعلاقات السطحية بين الأفراد لمناقشة سؤال الذات والكيان الأصلي في الطبيعة الإنسانية وهو ما يذهب إليه كارل غوستاف يونغ حين يصرْح بأن “هناك جملة نفسية ثانية ذات طبيعة جماعية وعالمية غير شخصية، واحدة لدى جميع أفراد النوع البشري، هذه الخاصية العامة لا تنمو فرديا بل هي موروثة، وتتكون من أشكال سابقة الوجود. هي النماذج المتأصلة، ولا تصبح واعية إلا على نحو ثانوي” وهو ما يتجلى بوضوح في مهرجان الرعاة وما يخلقه من لقاء تفاعلي مباشر بين الرعاة بمختلف ثقافتهم وخصوصياتهم وتحصيل التشبيك وتبادل العادات والتقاليد.
المركز الثقافي جبل سمامة : الثقافة البديلة الفعالة (culture alternative)
يعدّ مشروع المركز الثقافي الجبلي بسمامة لباعثه الفنان عدنان الهلالي من أهم التجارب الثقافية الرائدة في الجهات الداخلية والحدودية التي تثمّن الموروث الثقافي والفني والمواطني الذي يتمركز في الذاكرة الجماعية وفي عادات وتقاليد الأهالي اليومية، هذا المرورث مادي، لامادي وشفوي عمل القائمون على المشروع على تثمينه وجعله مادة حيوية للإنتاج الفني الموسيقي والفرجوي والحكائي… من خلال التشبيك والتبادل الثقافي بين المواطنين والفنانين والفاعلين الثقافيين من داخل وخارج البلاد وهو ما جعل أنشطة المركز النوعية المتمثلة في التظاهرات الثقافية والفنية والمعارض الخاصة بمنتجات الحرفيين والمهرجانات والعروض الفرجوية والموسيقية التي تنفتح على فضاءات شعبية متنوعة وتقترب من الجمهور في شكلها ومضمونها وحتى الأفراد المشاركين فيها، هذا ما يحيل إلى تكريس لمفهوم الثقافة الفعالة ونلاحظ أن لفظ active متعدّد المرادفات التي تؤدي المعنى المراد العمل في حقل تجربة المركز الثقافي جبل سمامة مثل possibilité وalternative وchangement أي التفاعل والتبادل المؤدّي إلى خلق البديل والمتغيّر والديناميكي والنشط والحقل الذي يشمل الثنائيات وداخل المجموعة التي تتوفر على روابط فعالة ومتفاعلة فيما بينها الإنسان هذه الثقافة الفعالة قائمة على “الأبحاث الثقافية التي تدخل في هذا التوجه تسعى لإلغاء التقسيم التقليدي بين العرض والجمهور وتحاول استعادة وسائل التعبير البدائية وحالة المتفرج العادي المعني والمشارك ضمن الرغبة في العودة إلى جوهر الثقافة كعمل جماعي قائم على مجموعة من المعتقدات والعواطف المشتركة بين الأعضاء العاديين في مجتمع معين، التي تشكل النّسق المحدّد لحياتهم” (دوركهايم).