تسارعت في الأيّام القليلة الماضية وتائر التّضييق على الحقوق والحريات، الأمر الذي جعل الكثيرين بالدّاخل والخارج يعتقدون، وهم على صواب، بأن بلادنا عادت عقارب ساعتها إلى سنوات الجمر زمن الديكتاتورية النوفمبرية.
فنظام الحكم القائم الذي وضع منذ 25 جويلية 2021 على رأس جدول أعماله غلق قوس الثورة وتصفية جميع مكتسباتها وعلى الأخصّ هوامش الحريّات والديموقراطية التّي دفعت أجيال متعاقبة من التونسيات والتونسيّين تضحيات كبيرة من أجل تحقيقها وصونها من جميع محاولات الالتفاف والإفساد بعد هروب “بن علي”.
فالنظام الشعبوي تحت صخب خطاب ديماغوجي مضلّل حول عودة الحكم للشعب وتصحيح المسار وصون السيادة الوطنية باشر منذ الأيام الأولى مهمَّات خنق الفضاء العامّ وتأطيره بمراسيم وأوامر معادية لأبسط الحقوق والمبادئ الديموقراطية التّي تكثّفت من خلال كلّ مراحل خارطة الطريق التّي وضعها “قيس سعيد” وثابر على إنجازها مستهدفا في كلّ خطواتها إنهاك الأجسام الوسيطة وإضعافها بهدف، إمّا تروبضها وتدجينها، أو الإجهاز عليها نهائيا والتخلّص منها ومن “أتعابها”.
فخطّ السّير منذ 25 جويلية كان على جميع الواجهات التّقهقر والعودة نحو الوراء على نقيض مزاعم “لا عودة للوراء “الذي كثيرا ما ردّده الحاكم بأمره وجوقة أنصاره بما فيهم طابور المساندة النقدية التّي أخذت على عاتقها مهمّات تزوير الواقع واختلاق الذّرائع لتبرير الحصيلة الكارثية للحكم الشعبوي الذي وظّف كلّ إمكانات الدولة وسخرّها لوضع أسس نظام حكم فردي مطلق استبدادي محافظ ورجعي.
ومثلما أسلف، فخطّ السّير الأوحد هو النكوص والإرتداد نحو الوراء في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي/الأخلاقي وبطبيعة الحال في المجال الوطني والقومي.
ومن بديهيّات الأمور أنّ تأمين وجهة الوراء تقتضي وفق أصحابها الديكتاتوريين البدء بضرب الحرّيات الفردية والعامّة لتجريد المجتمع والشعب من جميع وسائل الدّفاع عن المكتسبات والحيلولة دون تعميقها.
وضمن هذا السياق تمّ منذ الأشهر الأولى التّي أعقبت تدشين المسار الانقلابي تنشيط آلة القمع بوسائل وأساليب مختلفة ضدّ الأفراد وبعض القطاعات (قضاة، إعلام، محامين…) وبعض المنظمات والجمعيات التّي تشكلّ العمق الحقيقي للمجتمع المدني الديمقراطي.
فصواريخ الرئيس التّي كثيرا ما تباهي بإطلاقها استهدفت الأجسام الوسيطة وفي مقدّمتها التنظيمات الحزبية وبعض رموزها.
جرّافة القمع والتّنكيل طالت طيفا واسعا من النشطاء السياسيين والإعلاميين والفاعلين في المجتمع المدني بقضايا غلب عليها طابع الفبركة وعقلية الانتقام والتّنكيل التّي لم تميّز بين الجنس أو التوّجهات السياسيّة.
جرّافة النظام الشعبوي عمياء ولا ضوابط قانونية دنيا أمام اشتغالها الذي أفضى إلى توسيع دوائر القمع وتكاثر ضحاياه وتعدّد مشاربهم الفكرية والسياسية، فالكلّ في المنظور الشعبوي المسكون بفوبيا “المؤامرة” متهّم، والجميع مُدان بأشدّ “الجرائم “مثل “الخيانة الوطنية” والفساد وغيرهما من “ماعون” ذرائع الانحدار الديكتاتوري الذي تكثّف أشهرا قليلة قبل البيعة الرئاسية المرتقبة دون ضبط تاريخها أو الإفصاح عن قانونها المنظّم.
وتيرة دوران الجرّافة تسارعت في الأيّام القليلة الماضية وبلغت درجات مفزعة باقتحام دار المحامي واختطاف الأستاذة “سنية الدهماني” من قبل قوات بوليسية بزيّ مدني ووجوه ملثّمة رافقها إيقاف اعتباطي لكلّ من الإعلاميّين “مراد الزغيدي” و”برهان بسيس”.
والأعجب من ذاك الاقتحام الاستعراضي بهدف نشر الخوف والرعب ليس فقط في صفوف المحاميات والمحامين والعاملين بالقطاع الإعلامي وإنمّا كلّ المتابعين للشأن العامّ فقد عاودت فرق بوليسية مرّة ثانية اقتحام دار المحامي والعبث بمحتويات الدّار والتنكيل بالحضور واختطاف الأستاذ “مهدي زقروبة” الذي تعرّض إلى التعذيب حسب شهادات موثّقة ومُثبة، وتمّ نقله استعجاليا إلى المستشفى لتلقّي الإسعافات الضرورية جرّاء ما طاله من تعنيف وتعذيب بادٍ على أجزاء عديدة من جسمه.
حدث كلّ ذلك وليس مستبعدا بالمرّة أن تطال هذه الهجمة جهات أخرى بطرق بائسة وموغلة في الهمجيّة التّي تزاوج بين القوّة البوليسية الغاشمة والمحصّنة من كلّ عقاب وبين توظيف القضاء المدجّن والمحكوم بالتعليمات.
يقع إيقاف المعارضين والناقدين ويتمّ الاحتفاظ بهم ولدى باحث البداية يقع البحث عن القضايا ويتمّ تلفيقها بطرق بدائية، مضحكة تقود أصحابها وصاحباتها إلى السجون التّي إنفتحت شهيّتها لقبول الوافدين طورا بتُهم الفساد وحينا آخر بمزاعم التآمر وفي أحسن الأحوال وفق مرسوم 54 سيّئ الذّكر.
يسابق “قيس سعيد” الوقت بقضم الحقوق والحريّات لتعبيد الطريق أمام البيعة الانتخابية القادمة.
يفعل كلّ ذلك بصلفٍ كبير مستفيدا من ضعف الحركة الديموقراطية وتراجع الحراك الاجتماعي والشعبي غير مكترث لا بالاختناق الكبير الذي أضحت عليه البلاد ولا بدروس الماضي القريب التّي أكّدت بأنّ طريق الاستبداد مهما كانت شدّته قصير ذلك أنّ سياسة تكميم الأفواه ومحاولات فرض صمت القبور لن تُثمِر سوى استقرارا هشًّا وملغوما ينتهي دوما بانفجارات واسعة ضدّ الطّغاة والطّغيان.