بعد أيّام قليلة من إحياء الذكرى 37 لاغتيال الشهيد نبيل البركاتي جرّاء التعذيب يوم 8 ماي 1987، عادت آفة التعذيب لتحتل صدارة المشهد الإعلامي وتشغل الرأي العام في بلادنا. وذلك إثر اختطاف المحامي مهدي زقروبة من داخل مقر دار المحامي مساء يوم الإثنين 13 ماي 2024 واقتياده عنوة أمام أنظار زملائه على متن إحدى سيارات النقل الريفي إلى أحد المراكز الأمنية، ليتمّ الكشف ليلة 14 ماي 2024 عبر عديد الشهادات من المحامين الذين واكبوا جلسة استنطاقه بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة عن تعرّضه إلى التعذيب والتنكيل وتدهور لحالته الصحيّة، وهو ما سبّب لهم صدمة، بل إنّ ممثلة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب قد أُغمي عليها وتمّ نقلها على متن سيّارة إسعاف من هول ما تمّت معاينته على جسد المحامي.
ولا يمكن قراءة الأحداث المتتالية بمعزل عن سياسة الانقلاب القائمة على التنكيل بالخصوم أمام الجميع، بما فيه من احتجاز قسري أو تهديد بالسجن أو اعتقالات غير قانونية، أما السبّ والتحريض علنا بدءً بأعلى هرم في السلطة وصولاً إلى ميليشيات السّحل الالكتروني فحدث ولا حرج. وقد انتقلت هذه السلطة إلى شرعنة وتبرير أبشع الجرائم التي لن تسقط بالتقادم.
قوانين وطنية ومواثيق دولية، ولكن..
تنصّ المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتّحدة بموجب قراراها عدد 39/46 بتاريخ 10 ديسمبر 1984 وصادقت عليها تونس بمقتضى القانون عدد 79 لسنة 1988 المؤرخ في 11 جويلية 1988 على أنّ التعذيب هو أيّ عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا ويلحق عمدا بشخص ما يقصد الحصول من هذا الشخص على معلومات أو اعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في ارتكابه أو تخويفه أو إرغامه أو عندما يلحق مثل الألم أو العذاب لأيّ سبب يقوم عليه التمييز أيّا كان نوعه أو يحرص عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظّف رسمي أو أيّ شخص يتصرّف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها”.
كما صادقت تونس بعد الثورة على البرتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب للجمعية العامة للأمم المتحدّة بموجب المرسوم عدد 5 لسنة 2011 والمؤرّخ في 19 فيفري 2011، وأيضا صادقت على اتفاقية روما للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بموجب المرسوم عدد 4 لسنة 2011 الذي نصّ على أنّ التعذيب يعنى به تعمّد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة سواء بدنيا أو عقليا بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته.
ولم تقتصر التشريعات القانونية الدولية بخصوص تعريف جريمة التعذيب أو الإجراءات الوقائية منها أو العقوبات، بل إنّ المجلة الجزائية التونسية وفي الفصل 101 منها قد بيّنت “يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها مائة وعشرون دينارا للموظف العمومي أو شبهه الذي يرتكب بنفسه أو بواسطة الاعتداء بالعنف دون موجب على الناس حال مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرتها.
بل وفي الفصل 101 مكرّر عرّفت التعذيب بـ” يقصد بالتعذيب كلّ فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أو معنويا يلحق عمدا بشخص ما بقصد التحصيل منه أو من غيره على معلومات أو اعتراف بفعل ارتكبه أو يشتبه أنّه ارتكبه هو أو غيره. ويعدّ تعذيبا، تخويفا أو إزعاج شخص أو غيره للحصول على ما ذكر. ويدخل في نطاق التعذيب الألم أو العذاب أو التخويف أو الإرغام الحاصل إلى سبب من الأسباب بدافع التمييز العنصري. ويعتبر معذِّبا الموظف العمومي أو شبهه الذي يأمر أو يحرّض أو يوافق أو يسكت عن التعذيب أثناء مباشرته لوظيفة أو بمناسبة مباشرته له.
ورغم الترسانة القانونية الوطنية والدولية وفي انتظار الإقرار رسميا بتاريخ 8 ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب، إلاّ أن هذه الجرائم اللاإنسانية لازالت تهدّد التونسيين من جميع فئاتهم وقطاعاتهم. بل إنّ الإفلات من العقاب أصبح ممارسة منظّمة وهو ما تشهد به أروقة المحاكم التي إلى اليوم لم تبتّ في الجرائم والقضايا التي أحيلت إليها بسبب ممارسات التعذيب بغطاء من منظومة الحكم قبل الثورة.
جريمة تعذيب تستوجب المؤاخذة الجزائية
تابعنا مساء يوم الأربعاء 15 ماي الجاري، شهادات لعديد المحامين الذين كانوا في حالة صدمة بناء على معاينتهم المباشرة لوضعية زميلهم المحامي زقروبة الذي تمّ اقتياده أمام أنظار أعينهم إلى أحد المستشفيات العمومية بالعاصمة، وجميع هذه الشهادات تحدّثت عن ممارسة التعذيب بأبشع الطرق ضدّ زميلهم، وقد سارعت الهيئة الوطنية للمحامين بإصدار بيان أكدت من خلاله أنّ زقروبة يحمل أثار عنف مادي بأجزاء مختلفة بجسده وذلك أثناء فترة الإيقاف بمركز الاحتفاظ به وقد عاينها قاضي التحقيق، وقد اعتبرت الهيئة أنّ ما تعرّض له المحامي جريمة تعذيب تستوجب المتابعة والمؤاخذة الجزائية، بل حمّلت أعوان وزارة الداخلية الذين تولّوا الاعتداء عليه كامل المسؤولية بخصوص ما تعرّض له زميلهم من اعتداءات وتعذيب تمّ توثيقها لدى قاضي التحقيق”.
ودعت الهيئة التي سبق وأن أعلنت جملة من التحرّكات إثر عملية اختطاف المحامية سنية الدهماني من دار المحامي أيضا، عموم المحامين إلى مواصلة مقاطعة الحضور لدى باحث البداية إلى غاية موفّى يوم 21 ماي 2024. كما أعلنت الإضراب العام الوطني يوم الخميس 16 ماي تخلّلته وقفة احتجاجية أمام قصر العدالة بتونس. وقد سجّلت مشاركة كبيرة للمحامين وبتضامن من شخصيات حقوقية ورفعوا شعارات تعتبر سابقة بعد الانقلاب أهمّها المطالبة برحيل وزيرة العدل و”يا مهدي يا زقروبة، بن علي طاح بالروبة”.
رئيس جمهورية يتبنّى جريمة التعذيب؟
في الوقت الذي طالبت فيه الهيئة الوطنية للمحامين ومجلس العمداء رئيس الجمهورية بالتدخل العاجل إثر الأحداث التي شهدتها دار المحامي من اقتحام واختطاف لمحامين واعتداءات ضدّ منظورها، نشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية مساء 15 ماي 2024 بلاغا إثر اللّقاء الذي عقد مع وزيرة العدل، وقد تضمن بأنّ “ما حصل خلال الأيام الأخيرة لا يتعلّق أبدا بسلك المحاماة بل بمن تجرّأ وحقّر وطنه في وسائل الإعلام بل ورذّله وبمن اعتدى بالعنف على ضابط أمن، فمن يحقّر وطنه ومن ارتكب جريمة الاعتداء على موظّف حال مباشرته لوظيفته لا يمكن أن يبقى خارج دائرة المسائلة والجزاء، ولا نقبل بأن يتمّ المسّ بوطننا وبرموزه من الخارج فإنّنا لا نقبل بتحقير بلادنا من باب أخرى من الداخل”.
ووفقا لذات البلاغ وفي تعليقه على حادثتي اقتحام دار المحامي اعتبر قيس سعيد «أن دار المحامي توجد فوق التراب التونسي ولا تخضع لنظام لا إقليمية حتى يتحصّن بها أحد ويُردّد بأنه تم اقتحامها”.
في المقابل لم ترد ولو كلمة بخصوص جريمة التعذيب ضدّ المحامي مهدي زقروبة رغم معاينة عميد المحامين وإقراره بها، بل لم ترد أيّة إشارة لخرق القوانين أهمّها الإجراءات المتعلقة بالتتبّعات الجزائية ضدّ محام و”لا تباشر أعمال التفتيش لمكتب المحامي إلاّ في حالة التلبّس وبحضور محامي وقاضي التحقيق ورئيس الفرع أو من ينوبه”، وفقا للفصل 46 من مرسوم المحاماة لسنة 2011. ونص الفصل 48 من المرسوم على أنّه “يعتبر أعضاء مجلس الهيئة الوطنية للمحامين ومجالس الفروع الجهوية سلطة إدارية على معنى أحكام الفصل 82 من المجلة الجزائية والاعتداء على أحد أعضائها أو على أيّ محام أثناء ممارسته لمهنته أو بمناسبة ذلك يعاقب عليه بالعقاب المستوجب للاعتداء على قاض”.