بقلم شريف خرايفي
أحيى مناضلات ومناضلو حزب العمال ومجموعة من الحقوقيين والنقابيين ومناضلي اليسار، يوم الأحد 12 ماي الذكرى السابعة والثلاثين لاستشهاد المناضل البطل، ابن مدينة قعفور من ولاية سليانة، الرفيق نبيل بركاتي..
إحياء الذكرى: وفاء للشهيد ولرسالته التاريخية
تنقّل يوم الأحد الماضي عشرات من منتسبي حزب العمال وبعض أحزاب اليسار، ونشطاء حقوقيين ونقابيين، من مدن تونس الكبرى الشمال الغربي والساحل ومن الوسط والجنوب صوب مدينة قعفور إيفاءً لنذرٍ تعاهدوا عليه منذ 37 سنة، وهو إحياء يوم استشهاد نبيل تحت التعذيب من قبل جلاّدي نظام بورقيبة الدكتاتوري.
استشهد البطل وهو يحمي أسرارا عديدة تهمّ هياكل الحزب الوليد وأسماء المنتسبين إلى هذا الإطار السياسي الثوري المحظور.. استشهد مثبتا لجلاّده المجرم، أن الشيوعي تحوّله قناعته إلى قوة جبارة، لا تفلّ فيه ولا تركّعه كل صنوف التعذيب الوحشي؛ الشيوعي الحالم بعالم خالٍ من الاستغلال والاستعباد والاضطهاد والعسف والجور… استشهد وهو الذي خطّ مسيرة ناصعة من الصمود والشهامة، حتى أن قولته الشهيرة “الحياة تطول أو تقصُر، تلك أمور نسبيّة، المهم الفعل، ما يتركه الإنسان من أثر” تحوّلت إلى كوجيطو مُلهم لأجيال عديدة من الشباب الثوري…
استشهد البطل وهو “متلبّس” ببيان حزب العمال “الصراع الدّستوري الاخواني لا مصلحة للشعب فيه”، وهو بيان أصدره الحزب في وقت تكالبت فيه شقوق حزب الدستور وجهات عديدة، من الداخل والخارج، على خلافة العجوز، صاحب الحكم الفردي المطلق، الحبيب بورقيبة. وقد أثبتت الأيّام والوقائع صحّة تلك المواقف، وقتها، وحتى بعد عقود، عندما ثار الشعب التونسي على نظام بن علي الاستبدادي، ثم عادت قوى الثورة المضادّة، من النظام الدّستوري المقبور ومن القوى الرجعية الظلامية، لتتصارع من أجل الالتفاف على أهداف الثورة وعلى مكاسبها.
الوضع الراهن وتطوّراته حاضرة في ذكرى الشهيد
كما جرت العادة نظّم حزب العمال جملة من الأنشطة، تمثلت في خيمة سياسيّة حضرها جمع من الضيوف والمواطنين، ثم جولة في اتّجاه مركز الشرطة (مغلق منذ سنوات) أين تمّ تعذيب الشهيد لمدة أسبوعين تقريبا واغتياله صبيحة 8 ماي 1987 ورميه بجانب سكّة القطار بعد أن أطلقوا رصاصات في رأسه.
وبعدها تحوّل الجميع نحو مقبرة “البراكتية” أين وُضع إكليل من الزهور وألقِيت كلمات باسم الحزب وباسم فصيله الشبابي “اتحاد الشباب الشيوعي التونسي”.
في خيمة الذكرى تداول على المصدح ضيوف الحزب من الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة، عن فرع رابطة حقوق الإنسان بالجهة، عن حزب القطب، عن الحزب الاشتراكي، عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، عن حزب التيار الديمقراطي وأخيرا كلمة باسم الحزب قدّمها الأمين العام الرفيق حمه الهمامي.
كلمات الضيوف جاءت كلها لتعبّر عن تقديرهم للشهيد وللقيم التي استشهد من أجلها مقدّما حياته قربانا للمثل والمبادئ التي تربّى عليها كشيوعي في صفوف حزب العمال.
وقد جاءت مداخلات الضيوف لتُجمِع على راهنيّة المواقف التي ضحّى من أجلها نبيل، وخاصة من أجل الحرية التي تتكالب قوى الثورة المضادّة، ورأس حربتها النظام الشعبوي الحاكم، للإجهاز عليها، بعد أن افتكّها الشعب التونسي ذات 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011 بتضحياته ودماء شهدائه الذين عبّدوا الطريق الذي كان قد سار فيه نبيل بركاتي ومئات من شهداء النضال ضد المستعمر، ثم من سقطوا تحت قمع بورقيبة وبن علي..
كلمات الضيوف أكّدت أن تونس تمرّ بوضع دقيق وعلى غاية من الخطورة على جميع المستويات والواجهات (عجز اقتصادي ومالي وتنموي، تدهور اجتماعي وقيمي، قمع واستبداد سياسي، آفاق مسدودة…)؛ وكلّ ذلك مردّه الاستدارة القمعية المتنامية خلال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد انقلاب 25 جويلية 2021، الذي يكرّس فيه الرئيس كلّ أشكال الاستفراد بالحكم والسلطة، معتمدا على الأجهزة الصلبة فقط (الجيش والأمن) لتسيير أمور البلاد، خاصة وهو يستعدّ لإنجاز آخر محطة (الانتخابات الرئاسية) تكتمل بها شروط الحكم الفردي المطلق المتمثل في مشروع “البناء القاعدي” الهلامي.. غير أن هذه المحطة نفسها، أي الانتخابات، لا يلوح في الأفق ما يجزم بإمكانية إجراءها في موعدها “القانوني”، ولا ما يؤشّر أن شروط إجراءها الدّنيا متوفرة (مناخ سياسي يسمح بالتنافس السياسي، توفير تكافئ الفرص في الترشّح والدّعاية ومراقبة الاقتراع، حياد الإدارة والإعلام والمرفق العمومي، وخاصة استقلالية الهيئة المستقلّة للانتخابات التي لا تحوز على أدنى استقلالية..).
رسائل الأطراف المشاركة: الوحدة هي سبيلنا لإنقاذ البلاد
ما يمكن أن يمثل جديدا في كلمات الضيوف، سواء من ممثلي المجتمع المدني أو الأحزاب، على حدّ سواء، هو النّداءات التي أطلقوها من أجل الوحدة؛ الوحدة من أجل مواجهة غول الاستبداد وإنقاذ البلاد من مخاطر الانهيار في ظلّ سلطة الحاكم بأمره.
الوحدة التي ينشدها المتدخلون هي تلك التي تقطع مع الخلافات التي ميّزت محطّات عديدة في مسيرة أغلبها، خاصة في المرحلة الأخيرة من عمر الجبهة الشعبية قبل خمس سنوات، الوحدة التي تجمّع طيفا واسعا حول مشترك، فيه ما هو آني ومباشر (التصدّي لخطر الشعبوية الزّاحف) وفيه ما هو مرحلي (فرض بديل اجتماعي تقدمي يكبح فرامل الانهيار ويعيد ماكينة الإنتاج من أجل خلق الثروة وتوفير الشغل للمعطلين وردّ الاعتبار للحقوق الاجتماعية من صحة وتعليم وتشغيل، بديل يعوّل على القدرات الذاتيّة للشعب وعلى مقدراته البشرية والطبيعية، يقطع مع التبعيّة الذّليلة للمؤسسات المالية العالمية المتحكّمة في رقاب الشعوب ومصائرها.
لا أحد من الحاضرين، وحتى من متابعي التظاهرة عبر البثّ في صفحة الحزب، لم يلمس عمق وصدق هذه الرّسائل، التي تنمّ عن تقييم موضوعي وعن تقديرات ذاتية لكلّ المكونات، من كون هذه المرحلة، مرحلة الفشل السياسي الذريع والتّعويل على القمع والديماغوجيا فقط لمعالجة أزمته المتنامية، مُضاف إليها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، هي إلى حد كبير شبيه أوضاع عشية 17 ديسمبر 2010، عندما انفجر الشعب بركانا هادرا، أجهز على نظام كان من أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم…
وفي أتون هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد، يجزم المتدخلون أن الوقت هو وقت مواجهة ومقاومة وإن تطلّب الأمر تقديم كل أشكال التضحيات من أجل إنقاذ تونس وشعبها من كابوس العقود الماضية، حيث تكميم الأفواه وامتهان كرامة المواطن واستباحة حرمة الوطن وتمريغ سيادته… ووقت القوى اليسارية والتقدمية هي “الآن، الآن ، وليس غدًا”!!