أصدر حزب العمال أكثر من موقف بخصوص الحملة العنصرية ضد المهاجرين جنوب صحراويين غير النظاميين. ورأينا أن الوضع يتطلّب اليوم تحليلا أشمل لفضح خفايا هذه الحملة البغيضة وأهدافها.
طفحت إلى السّطح من جديد قضيّة المهاجرين غير النّظاميين القادمين من جنوب الصحراء. واختلط الأمر من جديد على التونسيات والتونسيين سواء في المناطق التي يتكثف فيها حضور هؤلاء المهاجرين (جهة صفاقس خاصة) أو في باقي مناطق البلاد التي يتابع سكانها المواد المسمومة المبثوثة في وسائل الإعلام وفي شبكة التواصل الاجتماعي. وفي هذه الأجواء المشحونة تصاعد من جديد خطاب العنصرية والكراهيّة والدعوات إلى العنف التي يغذّيها من جهة بعض السياسيين وأشباه المثقّفين والإعلاميين الشعبويّين ومن جهة أخرى غياب أي تحرك للسلطات الرسمية وفي مقدمتها القضاء لوضع حد لهذا الخطاب وما نجم عنه من ممارسات مشينة في أكثر من جهة. وما من شكّ في أن هذه الأجواء التي تتلازم فيها الحملات المسعورة من تحت بالصمت المتواطئ من فوق أحيانا وبالتحريض المكشوف أحيانا أخرى، أصبحت تصاحب كل القضايا الجدية التي تطرح بهدف حرف اهتمام التونسيات والتونسيين عن جذور تلك القضايا من ناحية وتغطية فشل سلطة الانقلاب في علاجها من ناحية ثانية وتوظيفها لمواصلة خدمة المشاريع الشعبوية الرجعية من ناحية ثالثة. ويهم حزب العمال أن يعبّر من جديد عن موقفه من مسألة المهاجرين غير النظاميّين وتطوراتها الأخيرة:
1. إن هؤلاء المهاجرين يعدّون الآن بعشرات الآلاف وليس بمئات الآلاف كما يوحي بذلك خطاب بعض السفهاء لتضخيم الظاهرة بهدف تبرير نظرية “المؤامرة”. ومن بين هؤلاء المهاجرين يوجد أكثر من 20 ألف وضعيتهم قانونية جاؤوا للدراسة أو للعمل. أما الباقون فقد فرّوا من بلدانهم سواء هروبا من النزاعات العسكريّة المدمّرة التي تغذّيها الدول الاستعماريّة ووكلاؤها على غرار ما يجري حاليا في السودان أو من براثن الجوع والفقر والبؤس والفساد والاستبداد والقهر والاضطهاد جرّاء سياسات النهب الاستعماري المتوحّشة والمتواصلة بشكل مباشر أو عبر أنظمة العمالة والاستبداد ممّا يحرم شعوب القارّة من التطور ومن تحقيق متطلبات العيش الكريم. وهم لا يأتون إلى تونس للاستقرار فيها وإنما للعبور منها نحو البلدان الأوروبية بحثا عن لقمة العيش وعن الأمن.
إن هؤلاء المهاجرين لا هم متآمرون ولا هم يحملون معهم مشروعا استيطانيا كما يروج الخطاب الغوغائي السخيف مشبها العملية زورا وبهتانا بما جرى في فلسطين في مطلع القرن العشرين وإنما هم من ضحايا العولمة الرأسمالية المتوحشة التي نتج عنها تركّز الثروة بيد حفنة من الدول والشركات والأفراد على حساب غالبية البشرية خاصة في بلدان ما يسمّى بـ “الجنوب”. إن تلك الدول لا تسمح إلا بتنقل السلع/البضائع والرساميل وتضع الحواجز أمام تنقّل البشر إليها مع علم أن رعاياها يتنقلون بحُرّية إلى بلدان “الجنوب” وفي غالب الأحيان كما هو الحال في بلادنا دون تأشيرة ولا حتى جواز سفر.
ولا يختلف هؤلاء المهاجرون عن أبنائنا وبناتنا الذين يخاطرون بحياتهم على ظهر قوارب الموت للالتحاق بالشواطئ الإيطالية والهجرة إلى أوروبا التي أصبحت “حلم” غالبيتهم التي تدمّرها البطالة والفقر والبؤس والقهر جرّاء سياسات منظومات الحكم المتعاقبة في بلادنا بما فيها المنظومة الشعبوية الحالية التي فاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وسواء تعلق الأمر بشبابنا أو بمهاجري جنوب الصحراء فجميعهم يقع ضحية عصابات الإتجار بالبشر التي تستغلّ مآسيهم وتنهب منهم مبالغ باهظة وتعرّضهم أثناء تنقيلهم أو بالأحرى تهجيرهم لمخاطر جمة ناهيك أن أعدادا غفيرة منهم إمّا يقضون في الصحراء قبل الوصول إلى “بلاد المعبر” وهي في الغالب تونس أو يبتلعهم البحر، إذا نجوا من الصحراء، قبل بلوغ الشواطئ الإيطاليّة.
2. ومن المعلوم أنّ السؤال الذي ما انفكّ يتردّد على الألسن طوال المدة الفارطة لغاية فهم الظاهرة بدقة ورفع الغموض المقصود عن بعض جوانبها وملابساتها هو التالي: كيف وصلت الأعداد الكبيرة من المهاجرين غير النظاميين إلى بلادنا وهي لا تملك حدودا مع بلدانهم الأصلية؟ إن الجواب واضح ويعلمه الجميع، فهؤلاء يصلون إلى بلادنا أولا من حدود الشقيقة الجزائر وثانيا من حدود الشقيقة ليبيا وكلاهما يعيش نفس المشكلة التي تعيشها تونس. فلماذا لا تتكلم السلطات التونسية عن هذا الأمر بوضوح؟ وهل أنها أثارته مع سلطات البلدين والحال أن الرئيس الجزائري ورئيس المجلس الرئاسي الليبي كانا بيننا في المدة الأخيرة للخوض في إقامة اتحاد جديد يخلف الاتحاد المغاربي؟ وماذا كان ردهما وهل من اتفاق على خطة مشتركة لمعالجة المسألة معالجة إنسانية تجنب المعالجات الأمنية ومحاولة تصدير كل طرف الأزمة إلى الطرف الآخر؟ وبشكل أوضح لماذا يقع السكوت عن تدفق المهاجرين جنوب الصحراويين لتقع شيطنتهم وملاحقتهم بعد دخولهم لمنعهم من المرور إلى البلدان الأوروبية تلبية لطلب إيطاليا والاتحاد الأوروبي اللذين يريدان تحويل بلادنا إلى حارس لحدودهما الجنوبية وسجنا كبيرا لإيواء المهاجرين غير النظاميين مقابل حفنة من المال؟ وبالإضافة إلى ذلك على ما اتفقت السلطات التونسية مع رئيسة حكومة إيطاليا الفاشية العنصرية “ميلوني”؟ لماذا لا يعلم التونسيون شيئا عن هذه الاتفاقيات؟
3. إنّنا نطرح هذه الأسئلة لتأكيد أنّ نظام الحكم في بلادنا ليست له سياسة موضوعيّة، عقلانيّة، جدية، مطابقة للاتفاقيات الدوليّة في التعاطي مع الهجرة غير النظاميّة وتتجاوز الخطاب الفضفاض والغوغائي لتحدّد الأسباب المركّبة للظاهرة وتضبط الإجراءات الضرورية، الإنسانيّة، لمعالجتها داخليا وخارجيّا. إن غياب هذه السياسة بهذه المواصفات هو الذي يضع بلادنا اليوم في مهب الرياح. فهي ليست لها سياسة تتفاوض بها مع دول “المصدر” وأخرى تتفاهم بها مع دول “المعبر” وثالثة تواجه بها دول “المقصد”. فالاتصالات غائبة على ما يبدو مع الصنف الأول من الدول. والغموض حتى لا نقول الصمت هو سيد الموقف حسب الظاهر مع دولتي الجوار. أمّا بخصوص الطرف الثالث فهو مصدر الضغط على بلادنا. إن الدول الأوروبية وفي مقدمتها إيطاليا لا يهمّها إلا شيء واحد وهو حراسة حدودها الجنوبية واعتراض تدفق المهاجرين إليها بعيدا عن حدودها عبر بلدان الجنوب ومنها بلادنا ومن ثمة تصدير الأزمة إلى هذه البلدان ونقل الصراع إلى ترابها بين الأهالي من جهة والمهاجرين “المصطادين” من جهة ثانية وهو الحاصل عندنا اليوم.
4. لا يمكن لسلطة الانقلاب أن تعتقد أن خطاب “لا نتلقّى تعليمات من أي كان” في قضية المهاجرين جنوب صحراويين قادر على إخفاء ما يجري في الواقع. إن المذكرة التفصيلية المنشورة في موقع المفوضية الأوروبيّة أخيرا حول تقدم العمل في تنفيذ مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي تبيّن “المجهودات الكبيرة” التي تبذلها السلطات التونسيّة في تنفيذ هذه المذكرة المبنية على مقاربة أمنية، في “اصطياد” المهاجرين القاصدين الشواطئ الإيطالية وإنزالهم في تونس. وهنا نصل إلى الوجه الآخر من المسألة وهو مصير المهاجرين جنوب صحراويّين في بلادنا. وفي هذا السياق فإن السؤال الذي يطرح نفسه والذي على التونسيات والتونسيين الانتباه إليه حتى يدركوا ما يحصل ولا ينساقوا وراء الغوغاء المدمّرة هو التالي: من هو الذي نقل المهاجرين غير النظاميين من وسط صفاقس وسرّحهم في العامرة وجبنيانة وتركهم في العراء بلا مأوى ولا غذاء مهددين في كرامتهم وحياتهم؟ من هو الذي وضعهم وجها لوجه مع أهالي هاتين المنطقتين الذين يعيشون مما توفره لهم قطع أرضهم الصغيرة من موارد؟ أليس هو السلطة؟ ثم من هو الذي نقل جزءا من هؤلاء المهاجرين وسرّحهم في منطقة الشمال الغربي وتركهم أيضا في العراء؟ أليس هو السلطات الرسمية أيضا؟
إن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان بداهة هو ما الغرض من هذا السلوك؟ ألا يعني هذا أن الدولة نفسها هي التي تعمّق الأزمة من خلال توزيع/تشتيت هؤلاء “الغَلَابَة” المفقّرين، المعدمين في عدّة مناطق من البلاد وتركهم وجها لوجه مع الأهالي التونسيّين الذين يعانون بدورهم مشاكل اقتصاديّة واجتماعيّة وهو ما من شأنه تغذية نقمة بعضهم على بعض؟ ألا يقودنا هذا إلى سؤال آخر: ما علاقة هذا السلوك بما يقال حول احتمال إعادة فتح مركز احتجاز بير الفطناسية بتطاوين لإيواء المهاجرين غير النظاميين (انظر جون أفريك بتاريخ 27 أفريل 2024) وهو ما يتطلّب، حسب بعض المهتمّين بالموضوع، خلق حالة من الهلع والخوف والرعب داخل المجتمع التونسي تسهّل تنفيذ هذا المشروع دون مشاكل كبيرة. وهذا التوجّه يؤكّد الخطاب الذي يحيط اليوم بمسألة مهاجري جنوب الصحراء وهو الخطاب القائم على نظرية المؤامرة التي أطلقها قيس سعيد في شهر فيفري من العام الفارط وما تزال سارية إلى اليوم على لسان أنصاره بمن فيهم “نوّاب” في “البرلمان”.
5. إن هؤلاء الذين تحرّكهم نزعة عنصرية مقيتة عمدوا إلى تضخيم الظاهرة وتهويلها ليتمكّنوا من إيجاد مبرر لاتهام المهاجرين الهاربين من الجحيم بكونهم يحملون “مشروعا استيطانيا” في تونس بهدف “تغيير تركيبتها الديمغرافية وطمس هويتها العربية والإسلامية” بل إن أحدهم لم يتردد في مقارنتهم بحركة الاستيطان الصهيونية في فلسطين في مطلع القرن العشرين داعيا إلى تكوين “لجان شعبية” لمعاضدة الجيش والأمن في مواجهتهم. وأضاف “نائب” آخر في إحدى الإذاعات بأنّ بين يديه “تقريرا” يؤكّد “وجود إصابات في صفوفهم بأمراض مُعْدية مثل السيدا والسلّ والجرب” وهو ما يمثّل في نظره “خطرا داهما على الوطن” مع العلم أنّ هذه المعطيات لا يمكن أن تكون إلا كاذبة طالما أن السلطات الصحيّة في صفاقس نفت علمها بها أو إجراءها تحاليل تفيد ذاك مؤكدة أن وجودها لا يمكن أن يبقى سرّا بالنظر إلى خطورتها على المصابين بها والتي تحملهم على التوجه إلى الجهات الصحية لمعالجتها. ولم يتوقف هراء ذلك النائب عند هذا الحد إذ ادعى دون تقديم أي دليل أنّ بين أولئك المهاجرين من تدرّب على السّلاح ضمن جماعات “بوكو حرام” النيجيرية الدينية المتطرّفة.
6. لقد ساهمت هذه التصريحات العنصرية ومثيلاتها التي قدمتها العديد من وسائل الإعلام على أنّها “وجهات نظر” في تأجيج الأوضاع وخلق هستيريا عنصرية تحريضية ضد هؤلاء المهاجرين وضد كل من يدافع عن كرامتهم الإنسانية أو يقدم إليهم دعما ولو كان “شربة ماء”. وقد احتضنت وسائل التواصل الاجتماعي خاصة هذه الحملة الكريهة، المشينة. ولم نسمع أن القضاء تحرّك بسرعة البرق التي تحرك بها لقمع معارضي قيس سعيد ومنتقديه لوقف تلك الحملة وملاحقة النواب وغيرهم من أشباه الإعلاميين والمثقفين الذين ساهموا في ترويج السموم العنصرية المجرّمة بمقتضى قانون 9 أكتوبر 2018 بل إنّنا لم نسمع قيس سعيّد نفسه يدين الهستيريا العنصرية ويطالب بوقفها ومحاسبة الواقفين وراءها بنفس تلك الشراسة التي يدعو بها قوات الأمن والقضاء إلى التحرّك ضد خصومه السياسيين وضد منتقديه تحت غطاء “تطبيق القانون على الجميع”، بل على العكس من ذلك فقد ترك “الجماعة” يتصرّفون على هواهم وكيف لا وهو أول من أثار رسميا حملة العداء ضد المهاجرين قلا عام، وراح من جانبه يستغل الحالة سياسيا.
لقد اقترن الخطاب التحريضي العنصري الموجه ضد المهاجرين غير النظاميّين بخطاب آخر، داخلي، قائم على التخوين وعلى تحميل مسؤولية الهجرة غير النظامية بشكل مباشر أو غير مباشر لمعارضي الانقلاب ومنتقديه الذين لم يُتْرك شرّ من الشرور لم ينسب إليهم في محاولة بائس لتغطية فشل سلطة الانقلاب على طول الخط في إدارة شؤون البلاد وإيجاد حلول للمعضلات التي تعاني منها الطبقات والفئات الكادحة والشعبيّة. وقد تمّ التركيز في ملف الهجرة على منظمات المجتمع التي تُعنى بمقاومة العنصرية ومساعدة المهاجرين غير النظاميين واللاجئين لتجد نفسها متهمة بالعمالة والخيانة وتلقي الأموال من الخارج مع العلم أن التمويلات التي تتلقاها عديد المنظمات تمر حتما عبر البنك المركزي ولجنة تحاليله المالية التي لم يمنعها أحد من وقف التمويلات المشبوهة ومحاسبة المنتفعين أو المتلاعبين بها. وقد تم اعتقال بعض المشرفين على بعض هذه المنظمات، مباشرة بعد خطاب قيس سعيّد أمام مجلس الأمن القومي، لتحميلهم مسؤولية فشل سلطة الانقلاب في معالجة ظاهرة الهجرة غير النظامية وكذلك لشيطنة منظمات المجتمع المدني عامة هذه الشيطنة التي تخدم المشروع الشعبوي اليميني المتطرف الذي لا يهدف إلى مقاومة الاختراقات الأجنبية بجدية ونجاعة دون المساس بالحريات ومنها حرية التنظيم، بقدر ما يهدف إلى القضاء على “الأجسام الوسيطة” أي على المجتمع المدني ونفي كل دور له ومركزة كل شيء بيد الدولة (عبر “الهلال الأحمر التونسي” المخول له وحده، رغم عجزه وقلة إمكانياته، الاهتمام بالمهاجرين). كما يهدف إلى الالتفاف على الحريات وحقوق الإنسان التي لا يتوقف الخطاب الشعبوي المعادي لها أصلا وفصلا عن ترذيلها وتشويهها وشيطنة المدافعات/المدافعين عنها لتشريع الدكتاتورية والفاشية.
7. إن كل المعطيات الموضوعية تؤكد مسؤولية الدولة في انفلات ظاهرة الهجرة غير النظامية في اتجاه بلادنا للعبور منها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي باعتبارها مسؤولة لوحدها عن حدود البلاد ومراقبة تنامي كل الظواهر الاجتماعية المحلية أو ذات الطابع الإقليمي والخارجي مثل الهجرة غير النظامية. كما تؤكد استقالة الحكومة التونسية من معالجة الظاهرة المعالجة الإنسانية التي تمليها المواثيق الدولية مما يثبت عجزها وفشلها وقصور مقاربتها التي تتجه إلى طمس هذا الفشل باعتماد نظرية المؤامرة من جهة والاتكال على الطرف الأوروبي للعب دور الحارس لحدوده مقابل “إعانات” مالية ولوجستية وفنّية فارغة من جهة ثانية واعتماد المعالجات الأمنية السهلة التي لا يتقن النظام القائم سواها من جهة ثالثة وفسح المجال لبث خطاب الكراهية والعنصرية ضد المهاجرين جنوب الصحراويين وتخوين كل تونسي أو تونسية تندد بذلك وتقف إلى جانب الضحايا من جهة رابعة. وما من شك في أن منظومة الحكم الشعبوية إذ تتحمل كامل المسؤولية عن تنامي موجة العنصرية ضد الأشقاء الجنوب صحراويين، فإنّها تسيء أيّما إساءة إلى السود من بنات بلادنا وأبنائها مهما كان عددهم وتغذّي رواسب السلوكيات العنصرية الكامنة في نفوس بعض الفئات وتخرجها إلى السّطح في ظل الأزمة الاجتماعية القيمية الضاربة في الوقت الحاضرة وتزرع المزيد من الانقسامات داخل مجتمعنا الذي ما انفكت سلطة الانقلاب تعمّقها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن موجة الكراهية العنصرية ضد أشقائنا جنوب الصحراويين تلحق ضررا كبيرا بجاليتنا في الخارج التي يبلغ عددها سنة 2021 مليون و731619 تونسي/تونسية 85.7 بالمائة منهم في أوروبا و55.8 في فرنسا و15.1 بالمائة في إيطاليا و6.6 بالمائة في ألمانيا. ومن بين جميع هؤلاء عشرات الآلاف من المهاجرين غير النظاميين. وبشكل أوضح يمكن القول إنه لا تكاد توجد عائلة تونسية ليس لها ابن أو ابنة في الهجرة. ولا يمكن لخطاب الكراهية والعنصرية وما يتبعه من ممارسات ودعوات بغيضة ضد ضحاياه إلا أن يعطي حجة لليمين الأوروبي عامة وجناحه المتطرف، العنصري، الفاشي الحاكم في بعض البلدان منها إيطاليا (ميلوني) وذي التأثير الكبير في بلدان أخرى وفي مقدمتها فرنسا (مارين لوبان، إيريك زمور…) خاصة ليضطهد جاليتنا ويطالب بترحيلها لأن ذلك اليمين يستعمل نفس الخطاب الذي يروج عندنا اليوم ضد أشقائنا جنوب صحراويين. إن خطاب هذا اليمين قائم على فكرة “المؤامرة”. فهو يتهم التونسيين وعامة المهاجرين من البلدان المغاربية والعربية والإفريقية بأنهم يريدون “تغيير” التركيبة الديمغرافية لأوروبا للسيطرة عليها وطمس “هويتها المسيحية”. كما أن هذا الخطاب يروّج لفكرة أن المهاجرين المسلمين هم إرهابيون بالقوة مستغلين في ذلك عمليات إرهابية قام بها متطرفون لإلصاق تهمة الإرهاب بكل مسلم بل بالإسلام نفسه. وإلى ذلك فإن الخطاب الأوروبي اليميني يروج في صفوف الطبقات الكادحة والمفقرة الأوروبية بأن المهاجرين هم سبب الأزمة الاجتماعية في بلدانهم وأنهم بالتالي سبب بطالة وفقر فئات واسعة منهم وليس النظام الرأسمالي. ومن الأفكار التي يروج لها أيضا أن المهاجرين يهددون أمنهم مستغلين بعض الجرائم التي يرتكبها بعض المهاجرين لوصمهم جميعا وأن المهاجرين “وسخين، وحمالي أمراض معدية” وتحاك على أساس ذلك خرافات كثيرة حول أطعمتهم وسلوكياتهم لتقديمهم في صورة “الوحوش الآدمية”. وبطبيعة الحال فإن الهدف من كل ذلك هو تبرير ضرورة طردهم للحفاظ على “نقاوة الأعراق الأوروبية” وعلى ديانتها المسيحية من جهة وإخفاء الأسباب الحقيقية لأزمة تلك المجتمعات الكامنة في النظام الرأسمالي المتوحّش. وكما هو الحال في بلادنا اليوم فإن اليمين الأوروبي يعتبر الأحزاب والمنظمات والجمعيات الحقوقية التي تعنى بالمهاجرين غير النظاميين “خونة” و”غير وطنيين” و”إسلاميين يساريين” ويدعو إلى نبذهم…
8. إن المنتفع من الخطاب العنصري الرائج اليوم في بلادنا ضد أشقائنا جنوب صحراويين هو بالإضافة إلى النظام الشعبوي الذي يستغله لحرف أنظار الطبقات والفئات الشعبية عن مسؤوليته عن أوضاعها المزرية وعن عجزه وفشله الفادح في معالجة تلك الأوضاع، هو اليمين الأوروبي العنصري. إن المسألة بسيطة فمروّجو ذلك الخطاب من داخل السلطة ومن خارجها يعطونه سلاحا ليستعمله ضد أبنائنا وبناتنا المقيمين في البلدان الأوروبية والذين هم أضعاف أضعاف المهاجرين جنوب صحراويين في بلادنا إضافة إلى كونهم مستقرين هناك. وعلاوة على ذلك فعلينا أن نعي أن السلوكيات العنصرية الحالية من شأنها أن تخلق ردود فعل عنصرية في بلدان جنوب الصحراء فنحن لنا جالية تونسية في عدة بلدان جنوب صحراوية بعضهم أصحاب مؤسسات وبعضهم مهندسون وتقنيون وأطبّاء وبعضهم الثالث عملة الخ… ولا ننسى ما أحدثه تصريح قيس سعيد العام الماضي من دعوات في خمسة أقطار من جنوب الصحراء لملاحقة أبناء جاليتنا علما وأن “الأفريكانية المتطرفة” صارت لا تعتبرنا أفارقة لأن لنا تاريخا “عنصريا” (الاتجار بالسود). وعليه فإن من واجبنا أن نواجه هذه الموجة العنصرية التي تتقاذف حاليا مجتمعنا ليس لأسباب قيمية إنسانية فحسب بل أيضا لأنها تلحق ضررا بشعبنا الذي يعيش حوالي سدسه في الهجرة. ومن البديهي أننا حين نؤكد على هذه الأفكار فإن ذلك لا يعني أننا لا نولي مسألة الهجرة غير النظامية أهمية ولا نقترح لها حلولا. على العكس من ذلك نحن نعتبر الهجرة غير النظامية ظاهرة يجب معالجتها سواء تعلق الأمر بأبنائنا وبناتنا الذين يلقون بأنفسهم في زوارق الموت أو بأبناء وبنات جنوب الصحراء الذين يأتوننا للعبور نحو نفس الهدف وهو الشواطئ الإيطالية للانتشار لاحقا في أوروبا.
9. إن أول ما ينبغي لنا التقيد به في معالجة مسألة المهاجرين جنوب صحراويين هو الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الدولة التونسية والتي تلزمها بمعاملة المهاجرين غير النظاميين معاملة إنسانية. ومن الضروري إدراك أنه إذا لم تلتزم الدولة التونسية بتلك الاتفاقيات فإنها ستتحول إلى دولة مارقة ليس بإمكانها أن تطالب الآخرين بالالتزام بها في التعامل مع أبنائنا وبناتنا وهو ما يفتح الباب لاضطهادهم. وفي هذا السياق فإن فكرتين أساسيتين تطرحان الأولى: بعث ملاجئ مفتوحة للمهاجرين غير النظاميين وتوفير أدنى أسباب الإقامة التي تضمن كرامتهم الإنسانية (غذاء، علاج…) في انتظار تسوية أوضاعهم. والثانية تمكين كل من له الإمكانيات للشغل والسكن من الإقامة. كما أنه من الضروري الاعتماد على مساعدة منظمات المجتمع المدني وعلى الأهالي لتحقيق هذه الأهداف. فليس من المعقول مطلقا أن يصبح كل من يقدم عونا لجنوب صحراوي مجرما وخائفا من الانتقام والحال أنه يقوم بعمل إنساني وليس بصدد ارتكاب جرم. كما أنه ليس من المعقول التهجم على منظمات المجتمع المدني التي تقوم بدور إنساني وهي عنوان تمدننا علما وأن مثل هذه المنظمات تقوم في البلدان الأوروبية بدور كبير لحماية جاليتنا ومساعدتها. كما أننا رأينا دور هذه المنظمات في إسناد الشعب الفلسطيني في غزة وهو ما عرض العاملين فيها إلى القتل على يد الإجرام الصهيوني.
10. هذا من جهة ومن جهة أخرى فمن الضروري تطوير مراقبة الحدود. وهذا لا يعني فتح الباب للتعسّف. فالمراقبة ينبغي أن تحترم أولا مبدأ حرية التنقّل بالنسبة إلى كل من هم في وضعية عادية/قانونية وأن تضمن ثانيا كرامة المهاجرين غير النظاميّين وأن تخلّصهم ثالثا من شرّ العصابات التي تستغلّهم وتتاجر بهم. وفي هذه الحالة لا بد من العمل على تقاسم المسؤولية بين أطراف ثلاثة وهي تونس والجزائر وليبيا. فالتفاوض مع الشقيتين لوضع خطة مشتركة أمر ضروري ومتأكد الآن وهنا حتى لا يلقي كل طرف بعبء المسألة على الطرف الآخر وحتى لا يترك المجال مفتوحا أمام الدول الأوروبية للانفراد بكل دولة على حدة وفرض ما تريده عليها. وبالإضافة إلى ذلك من الضروري رفض تحويل تونس إلى حارس للحدود الجنوبية لأوروبا ومصيدة للمهاجرين جنوب صحراويين ووضعهم في محتشدات. وهو ما يقتضي أولا وقبل كلّ شيء إلغاء الاتفاقيات غير المتكافئة مع دول الاتحاد الأوروبي الخاصة بتنقّل المواطنات والمواطنين من الجهتين (التأشيرة الخ…) وبالمهاجرين غير النظاميين سواء من أبنائنا وبناتنا أو من القادمين من بلدان “جنوب الصحراء” وفتح مفاوضات جادة لعقد اتفاقيات جديدة متكافئة مع تلك الدول جماعة وفرادى. وهو أمر يمكن أن تقوم به دول الجوار الثلاث إن توفرت عندها الإرادة المشتركة.
وعلى صعيد آخر لا بدّ من وضع حد للحملات العنصريّة المشينة ولكافة أشكال التحريض ضد المهاجرين بشكل عام والمهاجرين غير النظاميين بشكل خاص ومقاضاة المورّطين فيها مهما كان موقعهم من نواب وإعلاميين وأشباه سياسيين ومثقفين وحمل وسائل الإعلام على احترام القانون المجرم للعنصرية وعدم فسح المجال للخطاب العنصري وما يروّجه من أكاذيب لبثّ الخوف والهلع وتشريع أعمال العنف التي تستهدف ضحايا ذلك الخطاب، بدعوى “الانفتاح على مختلف المواقف” لأن العنصرية جريمة وليست وجهة نظر. إن هؤلاء هم الذين يسيئون إلى تونس وشعبها ويزعون في صفوفه الكراهية وعوامل الانقسام والتفرقة.
كما أنه من الضروري التصدي لاستغلال مسألة المهاجرين غير النظاميين جنوب الصحراويين لضرب الجمعيات وحرية التنظم عامة ضمن خطة شعبوية فاشية تهدف إلى إلغاء “الأجسام الوسيطة” واحتكار الدولة بأجهزتها السياسية والقمعية للفضاء العام. إن الحريات ليست منّة من أحد ومن باب أولى وأحرى من قيس سعيد وسلطة الانقلاب ولكنها ثمرة تضحيات أجيال من التونسيات والتونسيين من بينهم عدد كبير ممّن ارتقوا شهداء خالدين حبّا لوطنهم وفداء لشعبهم.
11. إن الحديث عن المهاجرين غير النظاميين جنوب صحراويين لا ينبغي أن ينسينا مطلقا في مهاجرينا نحن غير النظاميين الفارّين بجلودهم من جحيم البطالة والفقر والبؤس وانعدام الآفاق والأوروبية (لامبادوزا) إذا نجوا من الغرق وللاستغلال الفاحش في عديد من القطاعات. فمن الإجراءات المباشرة هو العمل على صيانة حقوق هؤلاء والضغط من أجل معاملتهم معاملة إنسانية ورفض إرجاعهم سرّا إلى تونس مقابل حفنة من اليوروات. أما الحل الجذري فيتعلق بمعالجة أسباب تلك الهجرة وهو ما يتطلب تغييرا عميقا للاختبارات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، الرأسمالية، التابعة، المتوحشة التي تعيد إنتاج الظاهرة وتفاقمها باستمرار.
ولا ينبغي أن يتوقف الأمر عند المهاجرين غير النظاميين فحتى أبناء جاليتنا بناتها المقيمين بصورة قانونية عرضة للميز والاضطهاد وهم لا يجدون الإسناد الكافي من قنصلياتهم وسفاراتهم.
ختاما،
أيتها التونسيات، أيها التونسيون احذروا السقوط في فخ العنصرية. فهو مصيدة الدول الرأسمالية الاستعمارية التي تسعى إلى ترك ضحايا عولمتها يتصارعون فيما بينهم بعيدا عن أراضيها. وهو محليا مصيدة سلطة الانقلاب لإلهائكم عن قضاياكم الحارقة وعن المتسبب الحقيقي فيها.
حافظوا على إنسانيتكم التي يريد الخطاب العنصري نزعها منكم ووجهوا نضالكم ضد من يصفّي مكاسبكم وينتهك حريتكم وحقوقكم ويعمق مصاعبكم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويبيع لكم الوهم في نفس الوقت.
إن مسألة الهجرة غير النظامية لا يمكن حلّها إلا بشكل عقلاني بعيد عن الغوغائية وفي إطار احترام القيم الإنسانية. ولا تنسوا مطلقا أن العرق الصافي كذبة. إن العرق الوحيد “الصافي” هو الإنسان بقطع النظر عن لونه أو جنسه أو دينه أو لغته.
ولكن الرأسمالية المتوحشة لا تستطيع البقاء دون بث الميز والكراهية بين البشر. إن سياستها القديمة الجديدة قائمة على مبدأ “فرّق تسدْ”.
لقد استقبل شعبنا الأشقاء الجزائريين أيام حرب التحرير. كما استقبل الأشقاء الليبيين بعد التدخل الأطلسي الإجرامي سنة 2011. فما بالنا نهلع اليوم من وجود بضعة عشرات الآلاف من إخوة لنا في الإنسانيّة تحت تأثير خطاب شعبوي خطير وكريه لإلهائنا عن مشاكلنا الحقيقية المتسبّب فيها.
فلنحافظ عل إنسانيتنا في تعاملنا مع أشقائنا جنوب صحراويين فهم إخوتنا في الإنسانية ولنبحث عن الحلول تضمن لهم كرامتهم لا تلك التي تدوسها وتسقطنا نحن في الوحشيّة.
حزب العمال
8 ماي 2024