بقلم علي البعزاوي
يتساءل الكثيرون عن أسباب وخلفية اعتماد المرسوم 54 الذي تتمركز حوله اليوم جل الاستهدافات والإيقافات والمحاكمات للسياسيين والنقابيين والمحامين والنشطاء عموما. لماذا لم تكتف السلطة القائمة باعتماد القوانين السابقة والتي تمكّن من مساحة للحقوق والحريات؟ خاصة وأنها جاءت حسب ادعاءاتها “لتصحيح المسار”. أي أن تقع المساءلة والمحاسبة مع ضمان حق الدفاع وحق المتقاضين بقطع النظر عن الجرائم المرتكبة. بل أكثر من هذا لماذا لم تبادر “الوظيفة التشريعية” بالنظر في هذا المرسوم لترسي بدله قوانين تضمن الحد الأدنى من الحقوق والحريات؟ ثم إلى متى سيتواصل الحكم بالمراسيم بديلا عن القوانين؟
مرسوم على قياس مصالح الحكم
لا أبحث عن دراسة قانونية للمرسوم 54 بل أساسا عن خلفيته السياسية. وفي هذا المستوى هناك في تقديري سببان رئيسيان وراء إصدار هذا المرسوم المعدّ على القياس.
أولا سبب سياسي مباشر يتمثل في التعامل مع النشطاء والمخالفين في الرأي واتخاذ الإجراءات الضرورية بشأنهم (من وجهة نظر الحكم الجديد طبعا) من سرعة إيقاف على أن يكون إيقافا معللا طبعا ورمي في السجن لإسكات كل الأصوات المناوئة/المعارضة/المشاكسة التي قد تساعد على استنهاض الشارع ضد الحكم القائم بالنظر لإخفاقاته على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إنّ اعتماد القوانين القديمة واحترام حقوق الأفراد من شأنه إطالة المسارات القضائية وعدم حسم المسائل بالسرعة التي تخدم مصالح الحكم من زاوية استقرار الأوضاع والقضاء على كل نشاط من شأنه المساهمة في تأليب الرّأي العام ضد الشعبوية. إنّ الخطب الرسمية واضحة في هذا السياق حيث يقع التأكيد على ضرورة تحمل القضاء لمسؤولياته وتسريع الإجراءات مع التهديد بمعاقبة كل تخاذل أو تواطؤ.
ثانيا سبب اقتصادي واجتماعي يتعلق بالخيارات المتّبعة والتي لا تختلف في الحقيقة عن الخيارات التي اعتمدتها المنظومات السابقة والتي تخدم كبار الرأسماليين والشركات والمؤسسات الأجنبية على حساب مصالح الأغلبية الشعبية. هذه الخيارات لا توفر الإمكانية لتمويل الطلبات المادية للنقابيين والشباب المعطل الذي يطالب بالشغل والعيش الكريم ولا توفر الخدمات الصحية والثقافية والتربوية والبيئية اللازمة. وهذا يتأكد من خلال ميزانيات التقشف التي وقع اعتمادها في 2023 و2024 والتي خفّضت إلى أقصى حدّ الاعتمادات المخصصة للتنمية واعتمدت على نسب اقتراض عالية غير مسبوقة (اقتراض داخلي وخارجي) وغير مضمونة أيضا وساهمت في مزيد دهورة الخدمات.
إنّ السلطة القائمة في حاجة إلى القمع وتكميم الأفواه والتضييق على النشطاء من أجل تمرير مشروعها الاقتصادي والاجتماعي اللاوطني واللاشعبي وسدّ الباب أمام كل أشكال الاحتجاج المنتظرة حتى تحافظ على بقائها واستمرارها في الحكم. والمرسوم 54 هو الأداة المعتمدة لتقنين وشرعنة وتبرير هذا القمع خاصة فيما يتعلق بالدعاية والنشر والتواصل.
القوانين والمراسيم ليست خارج الطبقات
إنّ القوانين والمراسيم ليست فوق الطبقات بل تخدم مصالح طبقية محددة. والمرسوم 54 إضافة إلى خدمة السلطة القائمة بحمايتها من المناوئين/المعارضين مثلما وقع تأكيده أعلاه يخدم في نهاية المطاف مصالح البورجوازية الكمبرادورية لأنه يسدّ الباب أمام فرص التعبئة من أجل الاحتجاج والإضرابات ويفرض نوعا من الاستقرار الاجتماعي الذي يخدم أيضا مصالح الشركات الأجنبية العاملة في بلادنا بفرض قوانين تضيق على النشاط النقابي وتحاصره وتسدّ الباب أمام المطالبة بترفيع الأجور وتحسين ظروف العمل.
إنّ مآخذ القوى الكمبرادورية على الثورة التونسية وتداعياتها السياسية والاجتماعية تركز منذ مدة ليست بالقصيرة على الإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية التي كانت حسب رأيهم السّبب في تعطيل النشاط الاقتصادي ووقعت شيطنة الاتحاد العام التونسي للشغل واستهداف مقراته بواسطة الميليشيات (الاعتداء على مقر الاتحاد في بطحاء محمد علي بالهراوات والأسلحة اليدوية المختلفة في ديسمبر 2012 والحال أنّ المسألة تتعلق أساسا بالخيارات المتبعة (اقتصاد ريعي يخدم مصالح الأقلية على حساب الأغلبية). ومازال الاتحاد والعمل النقابي مستهدفا اليوم من الحكم الجديد في نفس السياق ولنفس الأسباب واستجابة وخدمة لنفس المصالح الطبقية.
لقد عملت القوى الكمبرادورية التي لا مصلحة لها في الثورة على إرساء حكم جديد من شأنه أن يساعدها على ضمان مصالحها وتكديس الأرباح وسنّ القوانين المناسبة لذلك. وقد وجدت في الشعبوية “العصفور النادر” والبديل القادر على تأمين هذه المهمة ففتحت أمامه أبواب السلطة وهي تدعمه سياسيا باعتباره المعبر السياسي عن مصالحها الطبقية.
من أجل بديل وطني ديمقراطي شعبي
إنّ البديل الوطني الديمقراطي الشعبي الاجتماعي المنشود يقتضي إلغاء المنشور 54 وسن قوانين جديدة ضامنة للحقوق والحريات ويقتضي أيضا مراجعة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية من خلال منوال تنموي جديد يعتمد على دور أساسي للدولة من خلال قطاع عام ومؤسسات إنتاج وطني تعتمد ماليا على القدرات الذاتية للبلاد التي يمكن توفيرها من خلال سن ضريبة استثنائية على الثروات الكبرى وإلغاء ديون تونس الخارجية وكحدٍّ أدنى تعليق خلاص هذه الديون لفترة زمنية محددة لاستثمارها في المشاريع الكبرى مع إرساء تدقيق لديون تونس من شأنه أن يفضي إلى عدم خلاص الديون الكريهة التي تتحمّل مسؤوليتها كل المنظومات السابقة إلى جانب سن ضريبة تصاعدية على الدخل واستخلاص الديون المتخلّدة بذمّة رجال الأعمال والشركات والمؤسسات… وضمن هذه الخيارات الجديدة، يتحول القطاع الخاص بدوره، ضمن تشريعات وتصوّرات اقتصادية بديلة، إلى رافد من روافد التنمية، يساعد على خلق الثروة وتوفير فرص العمل للشباب الذي أفنته الحرقة.
إنّ هذا المشروع الوطني الديمقراطي الشعبي المذكور لا يمكن تحقيقه بالتنسيق مع الشعبوية ولا مع المنظومات القديمة الإخوانية والتجمعية/الدستورية بل على أنقاضها. وعليه فإنّ القوى الديمقراطية والتقدمية والطبقات والفئات الاجتماعية المعنية بهذا المشروع الجديد مطالبة بالعمل الدؤوب والمراكمة من أجل تغيير موازين القوى على طريق إنجاز المهمة الرئيسية المتمثلة في التغيير الجذري وإرساء المنظومة الجديدة. فالحلول الترقيعية لم تعد تجدي نفعا.
- يسقط المرسوم عدد 54
- من أجل بديل وطني ديمقراطي شعبي