بقلم عبد المومن بلعانس
مباشرة بعد 23 أكتوبر 2012 وبانتهاء مدّة شرعيّة المجلس الوطني التأسيسي دون أن يتقدّم قيد أنملة في إنجاز مهمّته الأساسيّة المتمثلة في إعداد دستور جديد للبلاد بعد ثورة الحرية والكرامة، دخلت تونس طورا جديدا يتميّز بحكومة عاجزة وفاشلة ومجلس تأسيسي لا شرعيّة له باعتبار لا وجود لشرعية غير محدودة في الزمن وغير مقيّدة بقانون.
في مثل تلك الأوضاع طُرح الحوار الوطني بكلّ إلحاحيّة للنّظر في كيفيّة إخراج البلاد من الأزمة التي تردّت فيها نتيجة لما أسفرت عليه انتخابات 23 أكتوبر من نتائج متناقضة مع أهداف الثورة وشعاراتها. وفشلت كلّ المحاولات الأولى لإرساء هذا الحوار نظرا لتعنّت الترويكا الحاكمة وإصرارها على أن لا يخرج عن سيطرتها أو على الأقل سيطرة إحدى مكوّناتها (رئاسة، حكومة، مجلس تأسيسي).
ولم يُفرض الحوار الوطني بصفة فعلية إلاّ بعد اغتيال الشّهيد الثاني للجبهة الشّعبيّة الحاج محمّد البراهمي وتردّي الأوضاع إلى أبعد الحدود وعلى كافة المستويات وانسحاب المعارضة من المجلس التأسيسي وتأسيس جبهة الإنقاذ وانتظام اعتصام الرحيل بباردو. وبعد أن كادت تتعطّل كافّة مؤسّسات الدّولة. وقد ساهم ذلك بصفة فعّالة في المصادقة على دستور تضمّن الحدّ الأدنى الوطني المدني والدّيمقراطي وتركيز حكومة جديدة على أنقاذ حكومة الترويكا الثانية، التزمت بتطبيق كافة بنود خارطة الطريق بما يوفّر المناخ الملائم لإجراء انتخابات نزيهة ديمقراطية وشفّافة.
وانطلقت الحكومة الجديدة في عملها وكان الأمل يحدو الجميع في أن تلتزم كلّ الأطراف بالاتفاقات الحاصلة فتتّجه الأزمة نحو الانفراج ويقع إدارة ما تبقّى من المرحلة الانتقالية بما يتلاءم والمبادئ الديمقراطية ويساهم في تحقيق أهداف الثورة.
وبدأ التّفكير في التخلّي عن الحوار الوطني وتحويله إلى إطار لإسناد الحكومة وإعانتها على القيام بمهامها وقد أدّى ذلك إلى توقّف الحوار الوطني بالكامل. إلاّ أنّ ما وصلنا إليه اليوم أضحى مدعاة للانشغال. فالحكومة لم تتقدّم بالشّكل المطلوب في إنجاز ما تعهّدت به والمجلس التأسيسي المتشبّث بشرعيّته في القيام بكلّ شيء عاد للتّعطّل من جديد. فرغم مرور أكثر من شهرين على المصادقة على الدستور والإعلان أنّ الانتخابات التشريعية والرئاسيّة لا يجب أن يتجاوز تاريخ إجرائها نهاية هذه السنة، فإنّنا مازلنا إلى اليوم بلا قانون انتخابي وبلا هيئة وقتية لمراقبة دستورية القوانين وقانون العدالة الانتقالية مازال في الرفّ رغم المصادقة عليه وهيئة الحقيقة والكرامة لم تتركّز بعد. وحركة النهضة وبقايا الترويكا ليسوا في عجلة من أمرهم ولسان حالهم يقول “إمّا أن تتمّ الانتخابات في هذه الظروف غير الملائمة لانتخابات نزيهة وشفّافة وإمّا لم لا تأجيلها” في رغبة مفضوحة لتدليس الانتخابات قبل أن تبدأ أو إبقاء الوضع على ما هو عليه دون تقدّم.
إنّ الواقع الحالي يؤكّد مرّة أخرى أنّ المجلس التأسيسي غير قادر على الاستجابة إلى طموحات الشعب وتوفير المستلزمات الضرورية لتنظيم الانتخابات القادمة والانتهاء من المرحلة الانتقالية في الآجال المطلوبة وهو المحكوم بالمصالح الأنانيّة والحزبية الضيّقة على حساب المصلحة العليا للوطن والشعب وكذلك الحكومة التي بدت ضعيفة متردّدة مرتبكة وأميل لمواصلة نهج سابقاتها في التّعويل على الخارج وعدم الاكتراث بالمصالح الحيوية للفئات الضعيفة والمتوسّطة.
في ظلّ هذا الواقع عاد الحديث عن ضرورة إعادة تنشيط الحوار الوطني في أسرع الأوقات كضرورة لامناص منها لإخراج البلاد من حالة التعطّل والفوضى والانفلات المتعدّد الأبعاد. ولكن لا مناص من القول أنّ هذا الحوار لن يحقّق أهدافه إلاّ إذا تمّ تشخيص الواقع بشكل دقيق وعرفنا من أين تأتي المخاطر الحقيقية وحدّدنا الأولويّات بكلّ وضوح. فإذا أردنا أن تخرج البلاد من الأزمة التي تتخبّط فيها فلا أقلّ من تطبيق كافّة بنود خارطة الطريق، وإذا أردنا التّوافق حول قانون انتخابي ديمقراطي يضمن انتخابات ديمقراطية وتمثيل شعبي حقيقي فالإطار الأمثل لذلك هو الحوار الوطني وليس المجلس التأسيسي الذي لا يشك أيّ نزيه اليوم أنه بات إطارا للثرثرة وبثّ الفرقة وتشويه أهداف الثورة والالتفاف عليها. إنّ الاستقواء على الحوار الوطني بمجلس تأسيسي منتهية شرعيّته منذ 23 أكتوبر 2012 ومهادنة القوى التي لا تريد توفير الظروف الملائمة لانتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة ولا تريد كشف الحقيقة كاملة حول اغتيال الشهداء وتتعامل مع مواقع المسؤوليّة كغنيمة ومطيّة لخدمة المصالح الحزبيّة وحتّى الشّخصيّة الضيّقة وتبرّر بكلّ الطّرق مواصلة نهج المخلوع في التعامل مع قضايا الشعب والوطن، لن يساهم في إنجاح الحوار الوطني ولا في تقدّم المسار الثوري في شيء.
ومهما يكن من أمر فلا أفق للحوار الوطني مالم يكن مسكونا بانتظارات الشعب الاقتصادية والاجتماعية والأمنيّة وبالإعداد لانتخابات تعكس الإرادة الشعبية وتتمّ في مناخ سليم يضمن ديمقراطيّتها ونزاهتها وشفافيّتها.
إنّ الاستقواء على الحوار الوطني بمجلس تأسيسي منتهية شرعيّته منذ 23 أكتوبر 2012 ومهادنة القوى التي لا تريد توفير الظروف الملائمة لانتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة ولا تريد كشف الحقيقة كاملة حول اغتيال الشهداء وتتعامل مع مواقع المسؤوليّة كغنيمة ومطيّة لخدمة المصالح الحزبيّة وحتّى الشّخصيّة الضيّقة وتبرّر بكلّ الطّرق مواصلة نهج المخلوع في التعامل مع قضايا الشعب والوطن، لن يساهم في إنجاح الحوار الوطني ولا في تقدّم المسار الثوري في شيء.