بقلم عمار عمروسية
انتهت منذ أيّام قليلة جولة المفاوضات الأخيرة غير المباشرة بين “حماس” والكيان الصهيوني إلى طريق مسدود أعقبه تكثيف العمليات العسكرية الإجرامية ضدّ مدينة “رفح” وأهلها الذين قفزت أعدادهم بفعل تدّفق النازحين من 250 ألف نسمة إلى أكثر من مليون ونصف.
إنّ جولة المحادثات الأخيرة اختلفت في جوانب كثيرة عن سابقاتها على الأقلّ في مسألتين، الأولى تعلّقت بمضمون الورقة المقدّمة والثانية بأصحاب تلك المبادرة وهما “قطر” ومصر “بموافقة أمريكية وفق مصادر إعلامية مختلفة وتأكيدات صريحة وردت على لسان الكثير من المتحدثين باسم بعض فصائل المقاومة.
فالتّسريبات التي رافقت ماراطون المحادثات بـ”القاهرة” و”الدوحة” كانت جميعها تنزع نحو التفاؤل باقتراب الاتفاق وإنهاء حرب الإبادة الجماعية.
فنجاح الصّفقة وفق قول رئيس الحكومة القطرية “أضحى قريبا أكثر من أيّ وقت مضى” وهو تقريبا ذات المعنى الذي ورد على لسان مدير المخابرات المصرية الذي أفاد لإحدى الفضائيات العربية قائلا “ردمنا جميع الفجوات بين طرفي النّزاع… ونهايات هذا الصراع في المتناول”.
في ذات السياق وردت الكثير من تصريحات كبار المسؤولين بالبيت الابيض المبشرّة بالانفراج القريب (بلينكن) والسلام القادم (كيربي) ووصل الأمر بالرئيس الأمريكي “بايدن” حدّ القول “كلّ أمور المفاوضات منتهية والكرة في ملعب حماس” بما يوحي ضمنيا موافقة الكيان مسبقا على بنود تلك الصفقة وهو ما وقع التصريح به في أكثر من مرّة.
فالكلّ كان يربط نجاح المسار أو فشله بردّ المفاوض الفلسطيني ومن المهمّ التأكيد على حملة الشيطنة والضغط السياسي والإعلامي الممارس من قبل الكيان الصهيوني وأمريكا وبعض دوائر الرجعيات العربية التّي صبّت كلّ دعاياتها حول تعنّت المقاومة وقفزها على مآسي الشعب الفلسطيني في تزوير وقح لحقيقة تمترس حكومة “نتانياهو” في خيار وحيد يرتكز على مواصلة العدوان الإجرامي الهمجي بهدف أولاّ الضغط العسكري على المقاومة وثانيا محاولة دقّ إسفين بين هذه الأخيرة وحاضنتها الشعبيّة الصّامدة وثالثا اللهث وراء أوهام النّصر المطلق كما يزعم “نتانياهو”.
أكثر من ذلك فحكومة الكيان وأمريكا وفق تقديرات كثيرة راهنتا على رفض الصفقة المقترحة من قبل المقاومة التي جاء ردّها بالإيجاب بمثابة المفاجأة السيئة التي أسقطت كلّ الدعايات السابقة وضيّقت الخناق على الكيان النازي وأحرجت شريكه الأساسي (أمريكا) في حرب الإبادة الجماعية.
فـ”حماس” بعد سلسلة المشاورات داخلها ومع مختلف الفصائل الفلسطينية ومحور المقاومة وبعد إدخال تحسينات على مضامين الورقة المقدّمة بما يضمن أساسيات الموقف الوطني وثوابت صدّ العدوان وتثبيت المرتكزات الأساسية لانتصارها (الوقف الدائم للعدوان، انسحاب قوات الاحتلال من القطاع، العودة دون قيد أو شرط لكلّ النازحين من الجنوب إلى الشمال مع ضمان حرّية تنقلّ المواطنين في كلّ “غزة”، رفع الحصار ودخول المساعدات الإنسانية مع صفقة تبادل منصفة للأسرى…) أعلنت بوضوح لا لبس حوله موافقتها على تلك المبادرة، الأمر الذي أطلق مهرجانات الأفراح ليس فقط داخل حاضنتها الشعبية وإنمّا في الجمهور الصهيوني.
لقد تعاملت “حماس” في تعاطيها مع جولة المباحثات الأخيرة مرّة أخرى وفق حقائق الميدان العسكري الراجحة بالرّغم من اختلال موازين القوى لصالحها وأغلقت الباب أمام محاولات سرقة منجزاتها العسكرية وتضحيات شعبها الصّامد.
فالمبدئية كانت دائمة الحضور في الأساسيات التي ذكرناها أعلاه والمرونة التكتيكية رافقت التدرّج الزمني لتثبيت بعض البنود مثل القبول أولا بترك الإعلان عن الوقف الدائم للعدوان بعد استكمال فترة المرحلة الاولى (42 يوما) وثانيا بقبول التدرّج في انسحاب القوّات الغازية وثالثا بترك متّسع للوقت لإعادة الإعمار.
لقد أتقنت المقاومة بشكل جيّد إدارة معارك الميدان وقدّمت طوال الأشهر الماضية دروسا ساطعة في الجرأة والشجاعة والصّمود البطولي وعزّزت منجزاتها بحذق فنون المفاوضات العسيرة والمعقدّة منقادة في كلّ مأزق تلك المباحثات بوضوح سياسي كبير جمع بين صلابة الدّفاع عن الثوابت والمرونة التكتيكية المحكومة بروح المسؤولية العاليّة نحو ليس فقط معاناة شعبها وتضحياته الجسام بل الكثير من الحسابات المرتبطة بوضع العدّو ومشكلاته المتزايدة على كافة المستويات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية.
نقلت المقاومة من خلال قبولها الصفقة كومة اللّهب من مجالها ورمتها في قلب الكيان الصهيوني الذي تمزّقه خلافاته وانقساماته كما لم يحدث من قبل ورمت الأنشوطة حول رقاب كواسر البيت الأبيض.