بقلم مرتضى العبيدي
منذ بداية الأسبوع الماضي، يعيش أرخبيل “كاناكي” أعمال احتجاج عنيفة تذكرنا بالاشتباكات التي وقعت به في ثمانينات القرن الماضي وهو الذي تطلق عليه فرنسا منذ أن استعمرته عام 1853 اسم “كاليدونيا الجديدة”، بينما يصرّ سكانه الأصليون على الحفاظ على اسمه التاريخي أي “كاناكي”. وقد جعلت منه فرنسا منفى للثائرين ضدها من مختلف مستعمراتها. وتواصل هذا الوضع حتى سنة 1896 قبل أن يصبح إقليمًا من أقاليم ما وراء البحار (TOM) في عام 1946، و”مجتمعًا فريدًا من نوعه” collectivité sui generis (أي بلا هوية محدّدة، لا هو بالمستقل ولا بالمستعمر) في عام 1999.
التوترات الحالية وخلفياتها
ولفهم خلفية التوترات الحالية بين سكان الأرخبيل والسلطة الاستعمارية الفرنسية، وجبت العودة إلى بعض الأحداث التاريخية وألاعيب ومناورات السلطات الاستعمارية لجعل التوازنات التي تحكم علاقة السكان بعضهم ببعض هشة وقابلة للانفجار في كل لحظة.
فسكان أرخبيل الكاناك والبالغ عددهم 271400 نسمة يتشكلون من مجموعتين أساسيتين هما الكاناك والكالدوش: الأوّلون هم السكان الأوائل للبلاد والذين سكنوها منذ ما يزيد عن 4000 عام، ويمثلون اليوم 41% من العدد الجملي للسكان. أمّا المجموعة الثانية، فينحدرون من المستوطنين البيض ويمثلون 24%. واليوم، يعلن جزء متزايد من السكان عن أنفسهم مختلطين ويطلقون على أنفسهم اسم “الكاليدونيين”.
يعيش الكاناك بشكل رئيسي في المقاطعة الشمالية وجزر لويالتي، وهي أفقر مناطق الأرخبيل والأقل سكانًا بينما يعيش 70% من سكان كاناكي في المقاطعة الجنوبية، حيث “العاصمة” نوميا. وقد قاوم الكاناك الاستعمار الفرنسي منذ انتصابه على أرضهم في القرن التاسع عشر من خلال الثورات والانتفاضات ولم تنطفئ جذوة المطالبة بالاستقلال في أي وقت من الأوقات.
وفي القرن العشرين، انتظموا في حركات سياسية تناضل من أجل استقلال بلادهم مثل “جبهة الكاناك” و”جبهة التحرير الوطني الاشتراكي” التي أنشئت في عام 1984. وقد اتخذ هذا النضال شكل النضال السلمي أحيانا واتخذ أشكالا عنيفة في أحيان أخرى. ووجّه سهامه مباشرة إلى المستعمر في غالب الأحيان، وجعله المستعمر يتخذ شكل الصراع بين المجموعتين السكانيتين، الكاناك والكالدوش أحيانا أخرى. ويتضح ذلك خاصة بمناسبة الانتخابات المحلية أو الاستفتاءات حيث تنسج التحالفات بين القابلين بالعيش تحت الاستعمار الفرنسي والمطالبين باستقلال البلاد الذين يُطلق عليهم اسم “الانفصاليين”.
مجزرة كهف جزيرة أوفيا
لكن في ثمانينات القرن الماضي تميزت هذه الصراعات بالعنف بين الأهالي والسلطة الاستعمارية. ففي 22 أفريل 1988، هاجمت قوات كوماندوز مؤيدة للاستقلال قوات الجندرمة في جزيرة “أوفيا” حيث قُتل أربعة من هؤلاء واحتُجز 27 آخرون كرهائن. وإثر ذلك، في الخامس من ماي، بين جولتي الانتخابات الرئاسية الفرنسية، أدّى هجوم للجيش الفرنسي في كهف أوفيا إلى تحرير الرهائن، ولكن في مذبحة دموية قُتل خلالها 19 من الكاناك وجنديين، وصفها البعض على أنها إعدام بدم بارد لخاطفي الرهائن.
وبعد مرور شهر، ساهمت اتفاقيات ماتينيون في تحقيق “المصالحة”، من خلال إعادة التوازن الاقتصادي وتقاسم السلطة السياسية. تم التوقيع عليه تحت رعاية رئيس الوزراء ميشيل روكار، بين “التجمع من أجل كاليدونيا في الجمهورية” (طابور فرنسا في الأرخبيل) بزعامة جاك لافلور و”جبهة الكاناك” بزعامة جان ماري تجيباو الذي سيتم اغتياله في السنة الموالية، المطالبة بالاستقلال. وتنص الاتفاقيات، التي تمّ التصديق عليها في نوفمبر من نفس السنة، على إنشاء ثلاث مقاطعات (الشمال والجنوب والجزر)، كما تنص على إجراء استفتاء لتقرير المصير في غضون عشر سنوات.
اتفاقية نوميا وفتح الباب أمام المناورات
في 5 ماي 1998، تم توقيع اتفاقية نوميا تحت رعاية رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان، لتؤسس لعملية إنهاء الاستعمار على امتداد عشرين عامًا. وينظم هذا النص التأسيسي، الذي تم التوصل إليه بين الدولة ومناهضي الاستقلال والمتمسكين به، ثم تم عرضه على السكان والمصادقة عليه بنسبة 72%، على أن يفضي إلى التحرر التدريجي للأرخبيل.
وفي عام 2009، بدأ مشروع قانون بنقل السلطات من الدولة الفرنسية إلى سلطات كاليدونيا الجديدة، فيما يتعلق بشؤون الشرطة في عام 2011، وتنظيم المدارس في عام 2012، والقانون المدني والتجاري في عام 2013. وبعد ذلك، وفقا لاتفاق نوميا، تم تنظيم استفتاء أول يوم 4 نوفمبر 2018، أدى إلى انتصار “لا” للاستقلال (56.7 %).
فطالب دعاة الاستقلال بإجراء مشاورات جديدة، حيث يسمح اتفاق نوميا بإجراء استفتاء ثان أو حتى ثالث إذا كانوا يمثلون على الأقل ثلث الممثلين المنتخبين في الكونغرس. في 4 أكتوبر 2020، فاز التصويت بـ “لا” بنسبة 53.2% فقط من الأصوات. وخلال الاستفتاء الثالث، في 12 ديسمبر 2021، حصل على أكثر من 96% من الأصوات، لكن نسبة الامتناع عن التصويت تجاوزت 50% إثر دعوة الاستقلاليين لمقاطعة الاستفتاء، بعد أن طلبوا عبثا تأجيل التصويت بسبب جائحة كوفيد-19. وهم يشككون في شرعية النتيجة ويطالبون بإجراء استفتاء جديد بحلول عام 2024.
رهان اليوم: تغيير الجسم الانتخابي
إن الإصلاح الدستوري، الذي صوّت عليه مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية الفرنسية يوم الثلاثاء 14 ماي الجاري، والذي يرفضه قسم كبير من الشعب في كاناكي هو الذي يشعل النار اليوم. وينص هذا الأخير على إدخال تغيير ذي بال على الجسم الانتخابي، وذلك بتوسيعه ليشمل جميع سكان كاناكي الأصليين، والمقيمين لمدة عشر سنوات على الأقل، لإجراء انتخابات المقاطعات. لكن هذا الإصلاح، لكي يتم اعتماده، يجب أن يحظى بموافقة الكونغرس في فرساي، الذي ينبغي أن يجتمع “قبل نهاية شهر جوان” بحسب إيمانويل ماكرون. وإذا ما تمّ تمريره، فإن نحو 000 25 شخص، نصفهم ولدوا في كاليدونيا الجديدة، سيقع ضمّهم إلى الناخبين، الأمر الذي من شأنه أن يغيّر التوازن السياسي. ويعتقد “الاستقلاليون” أن هذا الإصلاح من شأنه أن يضرب في الصميم موقفهم.
وبصفة موازية، يكثف المسؤولون الفرنسيون الهجوم على الأدوات التي ابتدعها الكاناكيون لترسيخ فكرة الاستقلال والنضال من أجلها (منظمات، أحزاب…) ويصفونها بشتى النعوت، من ذلك ما قاله جيرالد دارمانين وزير الداخلية الفرنسي بشأن خلية تنسيق العمل الميداني (CCAT : Cellule de coordination des actions de terrain) التي وصفها بالمافيا، واتهمها بارتكاب أعمال النهب والقتل.
النيكل وما أدراك ما النيكل (le nickel)
وفي الأرخبيل، تتشابك هذه الأزمة السياسية مع أخرى اقتصادية والمتمثلة في الصعوبات التي يواجهها قطاع النيكل، القلب الاقتصادي لكاليدونيا الجديدة. إذ يعدّ قطاع النيكل، الذي يمتلك الأرخبيل ما بين 20% إلى 30% من موارد العالم، أكبر جهة توظيف في البلاد، إذ يشغّل بشكل مباشر أو غير مباشر ما بين 20% إلى 25% من الأجراء في “كاليدونيا الجديدة”. ويُستخدم هذا الخام في صناعة الفولاذ المقاوم للصدأ (acier inoxydable) وبطاريات السيارات الكهربائية. لكن صناعته تواجه صعوبات ظرفية بسبب انخفاض الأسعار في الأسواق العالمية، ونتائج ارتفاع أسعار الطاقة، والمنافسة من إندونيسيا، التي زادت طاقتها الإنتاجية بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
وتسعى الحكومة المحلية بما أسمته “ميثاق النيكل” إلى إعادة توجيه الإنتاج نحو سوق البطاريات الأوروبية للنهوض بالقطاع لكن العراقيل التي تضعها المتروبول تعيق ذلك، إذ فرضت أن تساهم حكومة الأرخبيل في حدود 66,7 مليون يورو وهي تكلفة باهظة للغاية خاصة حين نعلم أن مديونية الأرخبيل تمثل 153% من الميزانية العامة لسنة 2023.
والحال هذه، هل مازلنا نستغرب من موقف فرنسا ممّا يجري في فلسطين المحتلة ومن مساندتها المطلقة للكيان الغاصب، وهي التي ما زالت تضطهد شعوبا أخرى باحتلال أراضيها وإخضاعها بقوة الحديد والنار في عهد أطلق عليه جزافا “العهد ما بعد الكولونيالي”.