إلى متى يُهمّش الثقافي؟

بقلم عمر حفيظ

كثيرا ما يُخْتَزَلُ الصّراع في المجتمعات في اعتباره صراعا سيّاسيّا بين مشروعيْن سياسيَّيْن أو أكثر. وبطبيعة الحال لا يكفّ أصحابُ هذا المشروع أو ذاك عن وعد الشّعبِ بمختلف فئاته بالإجابة عن كلّ الأسئلة التي تشغلهم من خلال ما يعدّون من برامج تكتيكيّة واستراتيجيّة.
وبطبيعة الحال كذلك أن تتبايَنَ المشاريع بتبَايُن الخلفيّات الأيديولوجيّة. ولكن ثمّة مشاريع لا تختلف إلاّ في العناوين. ونعني تحديدا كلّ المشاريع التي لا تمسّ بنية الاقتصاد وطبيعة الدّولة ونظام الحكم. فهذه مشاريع مختلفة في الدّرجة. وهناك مشاريعُ أخرى تطرح تغييرا جذريّا يطول كلّ البنى: الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة. وهذه مشاريع مختلفة في النّوع وفي ما يمكن أن تنفتح عليه من آفاق.
ولكن يبدو أنّ شيئا مّا يغيب في كلّ المشاريع أو في الحدّ الأدنى يُهَوَّنُ شَأْنُهُ فيوضع في آخر الأولويّات. ونعني تحديدا المشروع الثّقافيّ خاصّة في المجتمعات العربيّة في العصر الموسوم بأنّه عصر مختلف اختلافا نوعيّا عن العصور السّابقة من جهة ما هيمن فيه من تقنيات اتّصاليّة ومن تسارع ثقافة رقميّة جديدة ارتبطت بكلّ ما هو رقميّ، بما يعنيه ذلك من تأثير آنيّ ومباشر في أعداد مهولة من البشر في آن واحد أو في الوقت ذاته. فالهويّة المجتمعيّة وقاعدتها الهويّة الشّخصيّة أو حتّى الهويّة الشّخصيّة الفرديّة – وإن كان بينهما ضروب من التّفاوت والاختلاف – لا تتشكّلان اليوم ومستقبلا، على نحو ما كان في السّابق، أي بالتّدرج مرحليّا: من العائلة، إلى المدرسة، إلى المعهد، إلى الجامعة، إلى الحياة العامّة، وإنّما باتتا تتشكّلان على نحو سريع وموسّع تعسر مراقبته فضلا عن تعدّد مصادر التّشكيل إذ لا وجود في الفضاء الرّقميّ لأيّ نوع من أنواع الحدود أو الحواجز. والحجّة في ذلك أنّ كثيرين ممّن تحوّلوا إلى إرهابيّين تمّ تجنيدهم عن طريق الأنترنيت ومواقعها المختلفة. وقد ذكرنا مثال الإرهاب باعتباره مثالا أوضح يعرفه الجميع تقريبا. ولكن ثمّة أمثلة أخرى أخفى منه ولكنّها لا تقلّ خطورة عنه، من ذلك مثلا أنّ الحياة الرّقميّة وما فيها من انتشار للصّورة وسهولة في الوصول إلى’’’الشّيء أو الموضوع المطلوب‘‘‘ قلبت التّراتبيّة الرّمزيّة وقضت أو هي تقضي بطريقة ناعمة على قيم اجتماعيّة أساسيّة في بناء المجتمعات، نعني-مثلا- قيم العمل والتّضحية وبذل الجهد والتّدقيق والتّثبّت وغيرها وظهرت في المقابل قيم أخرى منها: الاستسهال والتّبسيط والاستعجال.
قد يقول قائل: أنتَ لم تتحدّث إلاّ عن السّلبيّ في الثّقافة الرّقميّة. فثمّة مردود إيجابيّ لا حدود له. نعم ثمّة مردود إيجابيّ وجب تعزيزه. وهذا تحصيل حاصل. ولكن ما يُخشى هو أن نقع في وهم الحداثة ونتصوّر أنّنا تطوّرنا بالقياس إلى أزمنة سابقة وأنّنا انخرطنا في الحداثة من بابها الواسع بفضل انتشار التّقنيات وتعميم الانترنيت ودخولنا أو دخول أغلبنا الفضاء الأزرق.
وهذا هو المشكل، أي مشكل’’’أن نتوهّم‘‘‘. كأنْ يكون حضور المرأة بقرار أو بتشريع ونتوهّم أنّها حازت حقوقها بذاك الحضور ونحن نعتبرها في بنية تفكيرنا العميقة’’’عورة‘‘‘ أو ’’’تابعة‘‘‘ أو أن نكتفيَ من الدّيمقراطيّة بآليّاتها الشّكليّة كالانتخاب أو الاختيار دون التّداول السّلميّ على السّلطة دون اعتبار لارتباطها بمجالات عيش النّاس الأخرى كالتّعليم والصحّة والعمل وتوزيع الثّروة والضّريبة عليها أو غير ذلك ممّا يقع في الوهم. ولعلّ المدخل الذي نعتبره الأنسب والأمثل إلى حدّ الآن هو ما تمّت الإشارة إليه سابقا، ونعني المشروع الثّقافيّ الذي يقوم على السّؤال والنّقد والمواجهة الفكريّة وإعادة النّظر في ما لم يعد مناسبا للسّياقات التّاريخيّة والمعرفيّة ومساءلته والتّفكير في البدائل الممكنة. فالاشتغال بالثّقافيّ بمعناه العامّ يساعد على تحويل كلّ القيم الحداثيّة إلى شأن يتمّ التّفكير فيه يوميّا. واللاّفت أنّ كثيرا من المثقّفين والكتّاب والمتنوّرين والتّقدميّين العرب تحدّثوا في هذه المسألة وخاضوا فيها، بعضهم كان متأثّرا بالغرب وبزيارته إليه، وبعضهم خاض في الأمر عن إيمان بضرورة تجسير التّفاوت بين الشّرق والغرب، وبعضهم كان داعيا إلى ممارسة نقد مزدوج: بتفكيك مركزيّة الغرب من جهة، ونقد الذّات من جهة أخرى بما يكون من مساءلة للبنى العميقة. وفي كلّ الحالات، فإنّ الرّهان الثّقافيّ يجب أن يكون رهانا رئيسيّا لا عرضيّا أو ثانويّا لأنّ أيّ مشروع سياسيّ يحتاج إلى أن يُسنَد ويُدعَم ويُثبَّت. وهذه مطالب لا تتحقّق إلاّ بإرساء إبدالات ثقافيّة تُناسب ذاك المشروع وتدافع عن أهدافه وتصونه من أن يتراجع أو يرتبك. فالثّقافيّ متلبّس بالذّوات-الأشخاص وضارب على نحو عميق في بُنى التّفكير والتّمثّل والتّخييل والتّصوّر النّظام الانفعاليّ والعاطفيّ والايتيقيّ ولذلك فإنّ التّغافل عن الثّقافيّ يهدّد أيَّ تغيير مهما كانت ثوريّته بالنّقض أو الارتداد كلّما أُتيحت الفرصة لمن يُعادي ذاك التّغيير حفاظا على مصالحه أو امتيازاته. وإذا كان هذا التّهديد من الدّاخل فثمّة كذلك تهديد من الخارج يمكن أن يُستغلَّ فيها الثّقافيُّ المعرقِلُ فيُعادُ إحياؤه وإذكاؤه لتوظيفه في إخماد أيّ نفس ثوريّ أو تقدّميّ.
ومن هذه الجهة فإنّ العمل الذي يُفترض أن يكون رهانا ماثلا باستمرار في برنامج أيّ حزب يهدف إلى التّغيير وتحقيق طموحاته هو العمل الثّقافيّ الذي يتوجّه مباشرة إلى الرّاسب الثّقافيّ وإلى ما تحوّل إلى مسلّمات أو متعاليات بغاية مساءلتها قيميّا وايتيقيّا وجماليّا. وبهذا المعنى فإنّ الصّراع في النّهاية ليس صراعا سياسيّا فقط. ويخطئ من يتصوّر ذلك أو يختزل الأبعاد كلّها في ما هو سياسيّ. إنّه صراع سياسيّ ولكنّه صراع ثقافيّ كذلك في المعنى العامّ لمصطلح الثّقافة، بل إنّه صراع جماليّ لأنّه يدافع عن رؤية مركّبة متعدّدة الأبعاد فيها من السّياسيّ والاجتماعيّ بقدر ما فيها من القيميّ الجماليّ.