وائل الدحدوح هو عنوان لتجربة مهنية وإنسانية واجهت الموت في أكثر من مرّة، تحدّى الاحتلال وقواته المجرمة، واجه ببساطته وهدوئه الآلام التي لحقت به إثر استهداف أفراد عائلته في أكثر من مناسبة، وأصرّ على مواصلة عمله ونقله لمعاناة شعبه الباسل رغم محاولات الكيان المجرم قتله في أكثر من مناسبة. هذا المراسل الصحفي من قطاع غّزة الذي ترك بصمته أمام أنظار العالم عبر تغطيته وبسالته في الحفاظ على المهنية يزور تونس هذه الأيّام لينقل صورة أخرى عن الصحفيين الذين يضطرون إلى التّضحية بأنفسهم وبعائلاتهم حفاظا على مهنتهم ونبل رسالتهم.
إمّا أن تكون صحفيا موظّفا أو صحفيا مثقلا بالقضايا الإنسانية
خلال الندوة الصحفية التي عقدت بمقرّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين يوم 28 ماي 2024، وبنفس هدوئه الذي عهدناه أمام شاشات قناة “الجزيرة” القطرية، تحدّث وائل الدحدوح بكل وضوح عن أهميّة العمل الصحفي في قطاع غزة خاصة والأراضي الفلسطينية بشكل عام، حيث أكّد الدحدوح أنّ الصحفي هو كمن يعمل في حقل من الألغام، فصحيح أنّ مهنة الصحافة هي مهنة المتاعب لكن في مكان ساخن كقطاع غزة فلا يخلو يوم أو شهر أو سنة من أحداث ساخنة من حروب وحصار، وهذا يجعل من مهنة الصحافة في مثل هذه الأماكن مهنة الموت. فالجميع يرى الأرقام التي سجّلت على مدار 8 أشهر من عملية طوفان الأقصى والتي أدّت إلى استهداف 150 صحفيا ومصورا صحفيا ودفعوا حياتهم ثمنا لهذه المهنة.
وأمام عدسات القنوات التلفزية ومصادح الإذاعات التونسية عمومية وخاصة، يواصل الدحدوح حديثه عن نبل هذه المهنة، حيث شدّد بأنّها مهنة إنسانية ونبيلة وسامية جدا ومن يؤمن بها يقدّم لها الكثير، مضيفا بأنّ الثمن قد كان غاليا جدّا ولم يحدث في أيّ أرض أو أيّة حقبة زمنية، فلو نظرنا إلى الحرب العالمية الأولى والثانية وحرب الفيتنام مثلا لم تتجاوز أعداد الصحفيين الذين سقطوا بسبب تغطيتهم 70 مقارنة بالوضع في قطاع غزة منذ 8 أشهر فقط، وهذه الأرقام مرعبة وخطيرة وتعكس أهمية هذا الصحفي ودوره.
وفي استرساله للحديث عن المهنة وقداستها، نوّه وائل الدحدوح عن “إيمان” الصحفي بما يقوم به، وهذا هو المفهوم الجديد للمهنة، فقد تعلّمنا وعبر مبادئ الصحافة بأنّه لا خبر يساوي قطرة دمّ تنزل من جسد الصحفي كما يقول، لكنّ المفاهيم الجديدة تجاوزت القواعد لأنّها لم تعد مرتبطة بالصحفي الموظّف. فيفترض أن يكون الصحفي مثقلا بالهموم والقضايا، وعلى الصحفيين اليوم أن يكونوا ملتصقين أكثر بالهموم الإنسانية وقضاياها، فعندما تكون صحفيا فقد قدّر لك أن تكون ناطقا باسم المجتمع وجميع قضاياه، أو أن تكون مجرّد رقم عادي في المجتمع، مؤكّدا بأنّ هذا المفهوم الجديد الذي يجب الحديث عنه في ضوء تجربة التغطية الصحفية في قطاع غزة.
إمّا الأسرة أو المهنة، الاختبار الأصعب للصحفيين بغزّة
تابعنا منذ بداية الحرب على قطاع غزّة إثر عملية طوفان الأقصى جرائم ضدّ الإنسانية بشعة نفّذها الكيان الصهيوني أمام أنظار العالم وبتواطؤ من أنظمة عربية ودعم من الإدارة الأمريكية وحلفائها. وهذه الجرائم لم يكن لها مثيل، حيث أكّد الدحدوح أنّ قوات الكيان المحتلّ اختارت طرقا متعددة وأكثر ألما عندما استهدفت عائلات الصحفيين وكأنّما أرادت أن تقتل الصحفي وجعا قبل استهدافه وتصفيته مباشرة ، ويضيف الدحدوح بأنّ هذا التحدّي الأكبر الذي برز لهم كصحفيين، ولم تكن قصّته الوحيدة، بل حدث نفس الشيء مع صحفيين آخرين ومصوّرين صحفيين، ورغم كلّ هذا فقد كان أمامهم تحدّي كبير، فمن أخطر الأسئلة التي قد تمرّ على الصحفي الاختيار بين الأسرة والمهنة، والإجابة عنها ليست سهلة أبدا، فقد كان في ذات الوقت اختبارا مهنيا توجّب عليهم النجاح فيه، وقد اختار المراسلون الصحفيون من غزّة أن يظلّوا صامدين وأن يتحدّوا الأوجاع والأحزان وأن ينحازوا إلى هذه المهنة التي يؤمنون بها وبأهمّيتها وإنسانيتها، “بل كان لزاما علينا -كما يتحدّث الدحدوح- وبعد أن فقدنا عائلاتنا أن نعود إلى عملنا ونوصل رسالة بأنّنا مازلنا بخير وأن صوتنا سيظلّ مرتفعا وأنّ الصورة ستستمرّ وأنّ هذه المعلومات التي يتابعها الجميع سوف تبقى وبنفس المهنية”.
يتحدّث الدحدوح بوضوح عن نبل المهنة الصحفية وأهميتها في نقل الأحداث كما هي، وعن أهمّ صفات الصحفي أكّد المراسل الذي عايش أهمّ وأصعب اللّحظات بأنّ المهنية لا تقلّ أهميّة عن العودة إلى العمل فالقضية العادلة لا تحتاج إلى صحفي يمكن أن يحرّف أو يزيّف أو يضخّم أو يهوّل، بل تحتاج إلى صحفي يحترم قواعد العمل الصحفية. فـ”نحن في بلد محتلّ من جانب كيان يمارس الجرائم في حقّ الناس وأنت كصحفي مطلوب منك فقط أن تسلّط الضوء على هذه الجرائم وهذا كافي وهو ما كنّا نحاول القيام به دائما وبكلّ شفافية لكنّ الجاني لا يريد أن يراه أحد عند تنفيذ جرائمه، ولأنّ الصحفي دائما ما يكون في قلب الأحداث فمن هنا جاءت عملية استهداف أسر الصحفيين والصحفيين أنفسهم ومكاتب عملهم”.
إنّ رسائل المراسل الصحفي من قطاع غزة إلى زملائه من تونس بمناسبة زيارته، لم تكن خالية من روح المهنة الصحفية، بل حثّ على ضرورة النأي بأن يكون الصحفي موظّفا بل أن يكون ناقلا لرسالة إنسانية نبيلة والتي تستحقّ منه جهدا أكبر وتضحيات جسام دفاعا عن صاحبة الجلالة.