بقلم عمار عمروسية
لم يعد يفصلنا عن الانتخابات الرئاسية القادمة سوى أشهر قليلة، غير أنّ عناصر أساسية من الغموض مازالت تحيط بهذا الاستحقاق وهو ما يعطي دليلا إضافيا على حالة العبث القانوني والسياسي الذي أضحت عليه بلادنا تحت هيمنة الحكم الفردي المطلق للرئيس “قيس سعيد” الذي أخذ على عاتقه منذ الوهلة الأولى للاستفراد بمقاليد السلطة عبر المراسيم (80 و117…) والدستور مهمّة نقل النظام السياسي خارج سياقات العصر الحديث أي ما قبل الجمهورية بمعانيها الليبرالية البورجوازية.
لقد مزّق الحكم الشعبوي جميع الروابط الدستورية والقانونية وبكلّ أساسيّات دولة الحق والقانون ووضع لبنات نظام سياسي هجين ومتخلّف يتطابق كلّيا مع أسوإ أنماط النّظم السياسية القائمة على تجميع السّلطات، كلّ السلطات بيد الفرد الواحد الذي يدير وفق رغاباته وحساباته الخاصّة جميع مؤسسات السلطة والدولة التي لا معنى لوجودها الشكلي سوى مقتضيات دورها الديكوري بهدف التّمويه في الدّاخل والمغالطة في الخارج.
لقد شطب “سعيّد” في ضيعته كلّ السلطات وحوّلها في دستوره إلى مجردّ وظائف يديرها بنفسه وفق مزاج متقلّب ونوازع لا حدود لشهيّتها في الإخضاع والتّدجين.
وفي هذا السياق وحده يمكن فهم كلّ حيثيات المسخرة الانتخابية القادمة التي مازال تاريخها وقوانينها المنظّمة في علم الرئيس وحده، وهو أمر غير مألوف ومحلّ تساؤلات كثيرة لدى كلّ المتابعين للشأن العام ببلادنا.
ومثلما أسلف فيوم الانتخابات وقانونها في علم الغيب وبالأحرى لدى سيّد الحلبة المشغول بترميم شعبيته المتآكلة وتوضيب دمى مشهدية مرافقيه من مستلزمات الديكور الديموقراطي.
إنّ مثل هذا الغموض في حدّ ذاته أمر معيب لشفافية ذلك الاستحقاق واستمراره (الغموض) حتّى أيّامنا هذه ليس بالأمر الاعتباطي بل هو خيار واعي تحكمه محدّدات كثيرة أوّلها الاستخفاف الكبير للرئيس بالضوابط الدنيا للتنافس النزيه والأسس الدنيا للديموقراطية وثانيها الاحتقار الفظيع للرأي العام الشعبي والوطني وثالثها “فوبيا” الخوف من المزاج العامّ المتقلّب ومفاجآت صناديق الاقتراع.
وحده الرئيس يعرف سيناريو المشهدية من بداياتها إلى نهاياتها، فحتّى هيئة الانتخابات سلّمت وظائفها المكفولة بالقانون وأدخلت نفسها في بوتقة التّخمينات والتّصريحات المتناقضة، فهي مثل “الأطرش في الزّفة” كما يقال. فهي أداة بيد سيّدها تساير نزواته وتمعن في هدر المال العام من خلال تكثيف الإرساليات بخصوص يوم مجهول وتغرق الرأي العام في وعود سرعان ما تنقضها (الوعد بكشف الأوامر الترتيبية) أو في آجال انتخابية متحرّكة (6 أكتوبر، 13 من نفس الشهر أو آخره…).
وحده سيّد الضيعة يعلم ما يلزم ويستنكف حتّى عن إعلان عزمه إعادة ترشيح نفسه مكتفيا في كلّ مرّة بشتم خصومه ونعتهم بأشدّ الصفات.
فحرية الترشح وفق تصريحاته طورا مرتهنة بمعايير سياسية مثل الوطنية وهي بدعة غير مسبوقة حتّى في أشدّ الديكتاتوريات وأحطّها وهي حينا آخر منعدمة الوجود وهو ما يفهم من قوله “التّرشح ليس شهوة… الترشح ليس رغبة…”!!!!
وحده في مضمار التّنافس منذ مدّة يمارس حملته الانتخابية من خلال إدارة إسطوانة الخطاب الشعبوي القائم على توظيف الشعارات الكبرى النبيلة للثورة لإلهاء الرأي العام عن قضاياه الحقيقية وصرف انتباهه نحو معارك مزيّفة وخادعة مثل “مواصلة حرب التّحرير، ومقاومة لوبيات الفساد وتفكيك شبكات التآمر…”.
وحيدا يسابق ظلّه ويخشاه في مضمار ينوء ببعض المرشحين جلّهم منهكين إمّا بوجودهم وراء القضبان بقضايا كيدية ومفبركة أو ملاحقين بتتبعّات انتقامية ينتظرون ساعة الولوج إلى الأقفاص الحديدية.
وحده يركض كما يريد دون ضوابط قانونية ودستورية، فمضمار ركضه لا يحتمل القواعد المعلومة من الجميع وهوس السلطة وفوبيا الرعب من خسارة مغانمها تدفعانه إلى المثابرة من جهة على المحافظة على ترسانة القوانين المعادية للحريات وبديهيات التنافس الديموقراطي، ومن جهة أخرى على تعزيزها بآليات جديدة تغلق كلّ المنافذ مهما كانت بسيطة أمام أيّ تسلّل محتمل لأيّ مرشح أو مرشّحة من أوساط المعارضة التجمعية أو الإخوانية أو غيرهما من الإصلاحيين الحالمين.
الكلّ في دائرة “المناوئين” وجماعات الجذب إلى الوراء مثلما يزعم. وجميعهم بل المجتمع كلّه تحت السياج الحديدي لقانون الطوارئ سيئ الذّكر وقذائف المرسوم 54 الفاشي.
حاضر التونسيات والتونسيين ومستقبلهم محكوم بموروث العهود البائدة ونقصد قانون الطوارئ المعروف بالأمر عدد 50 بتاريخ 26 جانفي 1978.
من يزعم صحبة جوقته أن لا عودة إلى الوراء ينبش في قمامة “انتيكا” الماضي السحيق ليستفيد من محاسن الديكتاتورية لصياغة المستقبل الشخصي لنفسه على حساب البلاد والعباد.
فقانون الطوارئ يعود تاريخه إلى حقبة دموية من حكم الراحل “بورقيبة” الذي لم يجد حرجا في إصداره بتاريخ 26 جانفي 1978 لإغراق انتفاضة الشعب في الدّم وخنق الأصوات النقابية المنادية باستقلالية العمل النقابي ومنظمته التاريخية الاتحاد العام التونسي للشغل. فالقانون المذكور يمنح السلطة التنفيذية (رئيس، وزير داخلية، والي…) سلطات واسعة وغير محدودة للتصّرف في حقوق الناس وحرياتهم تحت دعاوي إمّا الخطر الداهم الناتج عن نيل خطير على النظام العام “أو حصول أحداث تكتسي صبغة كارثة عامّة”.
حافظت هذه الآلية القمعية على وجودها طوال حكم “بن علي” ومثلت كلّ الحكومات وأحزمتها السياسية جدار صدّ لتحصين ذاك البقاء والحيلولة دون إلغائه بما يتلاءم مع طموحات الشعب التونسي في التحرّر والحرية.
ومعلوم أنّ الرئيس الراحل “الباحي قايد السبسي” قد أعاده إلى العمل سنة 2015 بعد العملية الإرهابية الكبيرة التي ذهب ضحيتها مجموعة من الحرس الرئاسي في شارع “محمد الخامس” واستقرّ العمل به طوال حكم “الباجي” رغم انتفاء مبرّرات حالة الاستثناء وتكاثر دعوات القوى الديمقراطية المنادية بالإقلاع عن كلّ تمديد.
لقد انتفت منذ سنوات الشروط الموضوعية للتمديد إلاّ أنّ رئيس الجمهورية حافظ على عادة سلفه وانتهى به الأمر إلى تجاوزه بإصدار أمر إعلان حالة الطوارئ لمدّة سنة (من 30 جانفي 2024 إلى 31 جانفي 2025).
قفز الرئيس على ماعون الخدمة البالي وأراح نفسه من تحيين التّمديد لمدّة شهر أو شهرين وسحبه دفعة واحدة في عام حاسم لتجديد عهدته مدفوعا بأهداف سياسية بعيدة كلّ البعد عن الضرورات الأمنية أو الكوارث والجوائح الطبيعية.
انقلب الرئيس على “قيس سعيّد” الذي وجّه نقودا لاذعة لاستعمال هذا القانون زمن سلفه ولم يكتف بهذا السياج الحديدي وإنّما أردفه بالمرسوم 54 لتنشيط ماكينة القمع والبطش ضدّ الناشطات والنشطاء ورموز الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والحقوقية والجمعيات المدنية ونساء الإعلام ورجالاته.
لقد أدخل الرئيس البلاد نفقا مظلما في مجال الحريات الفردية والعامة وأطلق حملة قمع واسعة طالت شظاياها طيفا واسعا ومتنوعا من المجتمع بهدف فرض صمت القبور وتعبيد الطريق أمام “تنظيف” مضمار السباق نحو قرطاج.