بقلم مرتضى العبيدي
هل يمكن اعتبار الزيارة التي أدّاها الرئيس التونسي إلى جمهورية الصين الشعبية إعلانا عن “انعطافة نحو الشرق” كما ذهب إليه بعض المحللين؟ وهل هي بداية القطيعة مع “بلدان الغرب الامبريالي” كما يروّج له أنصار الرئيس؟ أم هل أن الرئيس “يقود تونس إلى عزلة دبلوماسية مع أوروبا” كما تراءى للبعض الآخر؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير رافق زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الصين ليس فقط في وسائل الإعلام المحلية بل وكذلك في الصحافة العالمية شرقا وغربا. فما الذي يفسّر كل هذا الاهتمام، وهل تجد مثل هذه التساؤلات ما يبرّرها على أرض الواقع؟
دعوة عادية لاجتماع عادي
صبيحة الأحد 2 جوان، عاد الرئيس قيس سعيد من زيارة أدّاها إلى الصين ودامت بضعة أيام، لكن اللغط الذي رافقها في وسائل إعلام مختلفة لم يكفّ بعد. إذ تنوّعت القراءات بشأنها واختلفت باختلاف المواقع التي نشرت بها وباختلاف المحرّرين. وإذا كانت هذه أوّل زيارة يقوم بها رئيس تونسي إلى جمهورية الصين الشعبية، فذلك لا يعني البتة أن العلاقات بين البلدين كانت منعدمة أو متوتّرة، بل إن مجالات التعاون بين البلدين كثيرة ومتنوعة، وآثار الحضور الصيني في تونس كذلك.
لكن لماذا يتمّ الاهتمام بهذه الزيارة بالذات؟ والحال أنها دعوة لحدث عادي ومتكرّر، بما أن الرئيس التونسي دُعي لحضور موكب افتتاح المؤتمر الوزاري “العاشر” لمنتدى التعاون الصيني العربي، وهو حدث عادي ودوري تنظمه الصين في إطار برنامجها الاقتصادي “للتعاون” مع بلدان العالم والمعروف بـمبادرة “الحزام والطريق”، وهي إحياء لمشروع “طريق الحرير” التي كانت تسلكه القوافل التجارية الصينية في غابر العصور باتجاه بلدان العالم. إذن هو مجرّد اجتماع وزاري ارتأت الصين أن تدعو له كضيوف شرف أربع من الرؤساء العرب وهم رؤساء تونس ومصر والإمارات وأمير دولة البحرين (والثلاثة الأخيرين من المطبعين مع دولة الكيان الصهيوني).
لعل الوضع الداخلي لتونس وحالة الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها، والتي زادها تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض تمويلي بنحو 1.9 مليار دولار تدهورا، الأمر الذي جعلها تبحث عن مصادر تمويل جديدة حتى في الفضاءات غير المعتادة. وهو ما تسعى إلى استغلاله بلدان أخرى ما كنا نجرؤ على الاقتراب منها حتى لا نُغضب شركاءنا الاستراتيجيين أي البلدان الامبريالية الغربية التي ترتبط بها بلادنا بألف حبل وحبل، والتي لم تسعى أيّ من المنظومات التي حكمت البلاد قبل الثورة وبعدها للتخلص من هيمنتها ومن إملاءاتها التي لم تُخلّف إلا الوبال.
من العالم ذي القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب
واليوم مع نهاية العالم ذي القطب الواحد، وبروز أقطاب جديدة تنافس أمريكا في هيمنتها على العالم وبداية تشكل عالم متعدد الأقطاب، لعل أبرزها وأكثرها نشاطا هو القطب الصيني الروسي الذي يسعى لاستغلال الفراغات التي يتركها اندحار بعض القوى الامبريالية التقليدية كما هو حال فرنسا في إفريقيا، تسعى كل من روسيا والصين إلى ملء هذا الفراغ بشتى الأساليب والوسائل التي من بينها تطوير مثل هذه الشراكات مع بعض البلدان أو حتى مع فضاءات أوسع كبعض القارات أو شبه القارات، رأينا خلالها الأقطاب الامبريالية تتسابق على طلب ود هذا الطرف أو ذاك. من ذلك أننا لاحظنا خلال السنتين الأخيرتين تنظيم اجتماعات قمة مع هذه البلدان على غرار القمة الأمريكية الإفريقية (ديسمبر 2022)، والقمة الصينية العربية (ديسمبر 2022)، والقمة الروسية الإفريقية (جويلية 2023)، وملتقى السلام والأمن الصيني الإفريقي (سبتمبر 2023) ومنتدى التعاون الصيني الإفريقي الذي ينتظم كل ثلاث سنوات منذ سنة 2000.
لذلك لا يمكن اعتبار الاهتمام المتزايد بتونس من قبل بلدان من خارج المعسكر الغربي وليد اللحظة، بل هو يندرج ضمن هذا الإطار، وقد تعدّدت الإشارات والزيارات خلال الأشهر القليلة الماضية في هذا الاتجاه، حتى أن جزءا من التونسيين أصبحوا يرون أن الخلاص من الأزمة لن يأتي إلا من الشرق، ويعوّلون في ذلك على الصين وروسيا بالخصوص. فمنذ شهر ديسمبر الماضي زار تونس وزراء خارجية كل من أندونيسا وروسيا والصين ورئيس البرلمان في كوريا الجنوبية. وتحدث جميعهم على تعزيز العلاقات مع تونس وعلى استعدادهم لمساعدتها على تجاوز أزمنها الاقتصادية.
فسارع بعض التونسيين إلى حث السلطة على استعجال القطيعة مع البلدان الغربية خاصة بعدما أظهرته من انحياز لدولة الكيان الصهيوني منذ اندلاع طوفان الأقصى. بينما حذر آخرون من خطورة هذا التمشي الذي قد يؤدي إلا إلى حدوث تداعيات سلبية على تونس التي تمرّ بأزمة مالية خانقة بسبب مصاعب الاقتراض من الخارج، وتعطل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، مذكرين أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الأول لتونس بما أن 70% من المبادلات التجارية لتونس تتمّ مع بلدان الاتحاد الأوروبي، وثلاثة أرباع هذه النسبة مع 4 دول فقط (إيطاليا، فرنسا، ألمانيا وبلجيكا). كما أن اتفاقيات عدّة تربطه ببلادنا، منها ما يمنح حوافز لتصدير المنتجات الصناعية والفلاحية، ومنها زيت الزيتون. كما أنه بإمكان الاتحاد الأوروبي اللجوء إلى بعض الإجراءات كتضييق الخناق على التحويلات المالية بالعملة الصعبة للتونسيين المقيمين بأوروبا والذين يمثلون 80% من المغتربين التونسيين، وهو ما تدعو له بعض أصوات اليمين داخل الاتحاد الأوروبي التي تطالب حتى بإلغاء بعض الاتفاقيات مع تونس.
وداوني بالتي كانت هي الداء
لكن هل أن هذا الحسّ الشعبي الطامح إلى القطع مع الغرب يجد صدى له في سياسات المنظومة الحاكمة؟
إنّ من يراجع ما يُنشر في الرائد الرسمي للبلاد التونسية من اتفاقيات للقروض المُبرمة والتي صادق عليها البرلمان سيصاب بالإحباط، إذ أن القائمة تكشف أننا بصدد السير على خطى السلف الصالح من حيث حجم هذه القروض ومن حيث مصادرها. فقد أحصى الخبراء ما لا يقل عن 23 اتفاقية قرض صادرة في الرائد الرسمي خلال العشرة أشهر الأخيرة فقط وأغلبها من البلدان الغربية أو وكالاتها (إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، اليابان، البنك العالمي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الوكالة الفرنسية للتنمية، المؤسسة الألمانية للقروض…)، دون أن ننسى مذكرة التفاهمات مع الاتحاد الأوروبي والدولة الإيطالية الممضاة في شهر جويلية 2023 والتي تحتل فيها مسألة الهجرة غير النظامية مكانة بارزة إذ هي تجعل من تونس حارسة للحدود البحرية لأوروبا. وقد أشادت رئيسة الحكومة الإيطالية بهذا الدور منذ يومين، إذ صرحت أن هذا النوع من الهجرة قد تقلص إلى حدود 60% بفضل مجهودات تونس وليبيا.
إذن أين نحن من خطاب التعويل على الذات والسيادة الوطنية وحرب التحرير الوطني الذي يردّده الرئيس وأنصاره في كل مناسبة؟