الرئيسية / صوت الوطن / تدهور الأوضاع المعيشية لعموم الكادحين منذ 25 جويلية
تدهور الأوضاع المعيشية لعموم الكادحين منذ 25 جويلية

تدهور الأوضاع المعيشية لعموم الكادحين منذ 25 جويلية

بقلم مرتضى العبيدي

لقد أسالت ثورة 17/14 حبرا كثيرا وتعارضت حولها الآراء والتقييمات انطلاقا من طبيعتها وصولا إلى مآلاتها، إلا أنّ نقطة الاتفاق الوحيدة تكاد تكون قصورها في تقدير البعد الاقتصادي والاجتماعي للثورة. حيث بقدر ما أولت فعالياتها اهتماما كبيرا بالجوانب السياسية، وعلى رأسها قضايا الحريات، فقد أهملت بعدها الاجتماعي الذي من أجله قامت الثورة أساسا والذي وفّر لها عمقها الشعبي وجعل الطبقات والفئات الشعبية بمختلف مواقعها تساهم فيها دون حساب، آملة في تغيير حقيقي وعميق لأوضاعها المعيشية التي كانت في حالة تدهور مستمرّ زمن الدكتاتورية.
وكان من نتائج هذه الأوضاع أن دخلت البلاد في حالة أزمة عميقة ومتعدّدة الأبعاد، سَهُل معها ترذيل الشأن السياسي والسياسيين عامة، وهو ما تلقّفته الشعبوية الناشئة فجعلت منه خطابها الرسمي القائم على الاتهام والتخوين في مرحلة أولى وعلى القمع المفتوح في مرحلة ثانية، في محاولة لإلغاء كل ما تحقق من مكاسب ـ على قلّتها ـ وعلى رأسها مكسب الحرية.
لكن هل نجح الحكم الشعبوي فيما فشل فيه سابقوه؟ وهل قدّم بديلا عن السائد في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بالذات؟

شحّ المواد الأساسية وارتفاع الأسعار

إن الجواب على مثل هذا السؤال لم يعد يحتاج إلى أدلّة ترتكز على أرقام ومقارنات على طريقة الخبراء والمختصّين، فالواقع المعاش أصبح أكثر بلاغة من أيّ أرقام وأيّة خرائط وجداول.
فمشهد الطوابير أمام المساحات الكبرى والمحلات التجارية المختلفة منذ ما يزيد عن السنتين بات مألوفا لدى التونسيّين أمام شحّ المواد الأساسية كالحليب والزيت النباتي والسّكر والسميد والأرز بشكل دوري، وهو ما واجهته السلطات القائمة بالصّمت والتعتيم على حقيقة الأوضاع. وهو ما سهّل كذلك تطوّر القطاع الموازي والمضاربات وخاصة ارتفاع الأسعار التي تصبح خارجة عن أية مراقبة في ظلّ استعداد المواطن المحتاج دفع أي ثمن لتلبية حاجته من هذه المادة أو تلك.
أمّا في المناطق الحدودية، فقد اعتاد الأهالي التزوّد بالسّلع الغذائية والوقود من البلدان المجاورة، حيث أصبحت مسالك التهريب لقمة عيش السكان، رغم الإجراءات المشدّدة التي تفرضها القوات الأمنية لتشديد الخناق على المهربين، بل أن هذه السلع تجاوزت تلك المناطق لتنتشر في كافة أنحاء البلاد.
لهذه الأسباب وغيرها، يعتبر بعض الخبراء أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس اليوم هي الأسوأ منذ اندحار الاستعمار في خمسينيات القرن الماضي، وتداعيات جائحة كورونا، وقد أدّت إلى ارتفاع التضخّم المالي في البلاد، وهو ما يزيد من معاناة المواطن التونسي وتردّي مقدرته الشرائية.

غلق المؤسّسات الصغرى والمتوسطة وتفاقم البطالة

وممّا يزيد الأزمة تعقيدا بالنسبة للطبقة العاملة وعموم الكادحين تفاقم نسبة البطالة بسبب غلق الآلاف من المؤسسات الصغرى والمتوسطة الذي تضاعف مع انتشار وباء كورونا ولم ينقطع بعد انقشاع الجائحة بسبب الصعوبات المالية التي تواجهها هذه المؤسسات. فلقد سرّحت عديد مؤسسات القطاع الخاص في تونس، من شركات ومعامل ومصانع، آلاف العمال طيلة السنوات الماضية. فلئن بلغت عمليات التسريح 3845 عملية سنة 2018، في القطاع الخاص، فإن عددها تضاعف مرّات ومرّات في السنوات الثلاثة الأخيرة، مُلقية بعشرات الآلاف من العمال في الشوارع. وتنتشر اليوم في المحاكم التونسية آلاف القضايا الخاصة بالعمّال المسرّحين لتطول مدّة التقاضي بين رجل أعمال متهرب من دفع مستحقات الأجراء وعمال يعانون شبح التشرد والجوع. ويتضح من خلال هذه المحاكمات أنّ عديد أصحاب المصانع “متحيّلون” على البنوك والقباضات وحتى على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كما توضّحه مئات التقارير التي أعدّها ويعدّها المتصرفون القضائيون.

النتيجة: تفقير ممنهج للتونسيّين

وتبقى تقارير المعهد الوطني للإحصاء من أهمّ المصادر للتعرّف على واقع مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، إن من خلال “التعداد العام للسكان والمساكن” الذي ينجزه كل عشر سنوات والذي يستعدّ المعهد لإنجاز نسخته الجديدة خلال السنة الجارية، أو من خلال تحقيقات أخرى جزئية أو قطاعية تهمّ هذا المظهر أو ذاك من حياة التونسيين والتونسيات. من ذلك نشره خلال سنة 2023 لنتائج “المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر” والذي خلص فيه إلى أن نسبة الفقر في تونس ارتفعت سنة 2021 إلى 16.6% مقابل 15.2% سنة 2015، فيما حافظت نسبة الفقر المدقع على استقرارها في حدود 2.9%، مؤكّدا وجود تفاوت في نسب اللامساواة حسب الجهات. ويُعتبر فقيرا سنة 2021 حسب معايير المعهد، كلّ شخص لم يتجاوز إنفاقه الاستهلاكي السنوي 2536 ديناراً.
ووفقاً لهذا المسح فإن “نسبة الفقر شهدت زيادة في معظم الجهات باستثناء ولايات الشمال الغربي المرتفعة أصلا حيث انخفضت فيه هذه النسبة إلى 22.5% بعد أن كانت في مستوى 28.4% عام 2015 وإقليم تونس الكبرى، إذ تراجعت النسبة من 5.3 إلى 4.7%، بينما عرفت ولايات الوسط الغربي أعلى نسبة بـ37%.
كما أبرزت دراسة معهد الإحصاء أن التفاوتات متنوّعة ومتعدّدة الأبعاد، فهي لا تشمل الأشخاص والطبقات والفئات الاجتماعية فقط، بل هي تشمل كذلك الجهات والنوع الاجتماعي. ويُرجِع بعض الخبراء ذلك إلى سياسات التقشف التي حرّرت الاقتصاد التونسي من خلال خطط “الإصلاح الهيكلي” الواسعة، والتي أدّت إلى الانسحاب التدريجي للدولة من بعض القطاعات الأساسية مثل الصحة والتعليم، إلى جانب نظام ضريبي مزدوج، وهي العوامل الرئيسية في ترسيخ أسس عدم المساواة العميقة في البلاد. وقد شجّع هذا النظام، الذي أملته الرؤية النيوليبرالية للمؤسسات المالية الدولية، على تطوير القطاع الخاص لخدمة الأغنياء، على حساب الفقراء وعلى حساب الخدمات العامة الأساسية ذات الجودة والمتاحة للجميع.

البنك الدولي يساهم في تأجيج الأزمة ويتظاهر بتوفير الدواء

وأمام تزايد رقعة الفقر في تونس، وتحسُّبا لبلوغ المزيد من التونسيين مجال الفقر المدقع، بادر البنك الدولي، وهو أحد المؤسسات المالية المتسببة في تأزيم الأوضاع الاقتصادية في تونس، بتقديم “مساعدات” في شكل قروض ميسّرة لتونس بقيمة إجمالية تبلغ 700 مليون دولار ضمن برنامجه الاجتماعي الذي يهدف إلى مساعدة الأُسر التونسية لمواجهة حالة الأزمة المزمنة التي تتخبّط فيها البلاد إثر تداعيات أزمة كورونا والنزاع الروسي -الأوكراني. ويهدف هذا القرض إلى توفير مساعدات لنحو مليون عائلة تونسية من أجل “تعزيز الحماية الاجتماعية ودعم السّلم الاجتماعي في البلاد ضمن برنامج اجتماعي سيكون تحت إشراف رئيس الجمهورية التونسية”، حسب تصريح السيد فريد بلحاج نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي أكدّ كذلك على “ضرورة الإسراع في تجسيم مختلف الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية”.
فأين نحن من خطاب المزايدة إزاء امتناع صندوق النقد الدولي تمكين تونس من قسط القرض المقدّر بـ1.9 مليون دولار، ومن خطاب “السيادة الوطنية” ومن شعارات الثورة التي جاء مسار 25 جويلية استكمالا لها: فلا الشّغل تحقّق، ولا الحرية تعزّزت، ولا الكرامة الوطنية تجسّدت بأي شكل من الأشكال. فعن أيّ سيادة نتحدّث والبلاد مازالت تأكل من وراء البحار، والميزانيات المتعاقبة تكشف مواصلة الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، بل أن هنالك اجتهادا خاصا لتنفيذ هذه الإملاءات من خلال برامج التقشّف وغيرها والمتجسّدة عمليا في وقف الانتدابات، والضغط على كتلة الأجور، وتعميم التّشغيل الهش، والتلويح بالتّفويت في المؤسسات العمومية كلما احتدّت الأزمة؟

إلى الأعلى
×