بقلم علي البعزاوي
كثر الحديث في الأسابيع الأخيرة عن تنامي ظاهرة الاقتراض والتداين حتى أن جلسات البرلمان تكاد تنحصر في النظر والمصادقة على اتفاقيات قروض والهدف هو سد الثغرة في الميزانية (28 ألف مليار منها 16 ألف قروض خارجية لم يتوفر منها إلا النزر القليل) والاستجابة لبعض الحاجيات الملحة التي لم تقدر الدولة على تمويلها من مواردها الخاصة مثل توفير حاجيات البلاد من الحبوب وإعادة تأهيل شبكة السكك الحديدية لتسهيل نقل الفسفاط وتمويل استيراد الغاز والمنتوجات البترولية ونقل وتوزيع الكهرباء ودعم الحماية الاجتماعية والحماية من الفيضانات وتمويل المؤسسات التربوية وبرنامج التأقلم مع التغيرات المناخية…
في كلمة كل القطاعات تقريبا لا تتنفس إلا بالقروض الخارجية التي تأتي من إيطاليا وألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية واليابان والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة والصندوق العربي للإنماء والبنك الإفريقي للتوريد والوكالة الفرنسية للتنمية والمؤسسة الألمانية للقروض. وقد ارتفعت نسبة الدين الخارجي خلال الثلاثي الأول لسنة 2024 بنسبة 156% حسب بعض الخبراء وهو ما يفتح البلاد على إمكانية تصنيف ائتماني جديد يصعب أكثر فأكثر إمكانية الاقتراض الخارجي ويجعل كلفته عالية.
إن الاندفاع نحو الاقتراض من شانه رهن الأجيال القادمة وإغراق البلاد في المديونية ومزيد رهن الاقتصاد المحلي وربطه أكثر بالاقتصاديات الرأسمالية الباحثة عن الربح الأوفر دون مساعدة البلد المعني على النمو والازدهار والتطور المستقل ناهيك أن أغلب هذه القروض إن لم نقل كلها موجهة للاستهلاك وخلاص الديون ولا علاقة لها بالتنمية.
الخيارات الحالية تعمق الأزمة
إن الخيارات الليبرالية المتوحشة التي تعتمدها المنظومة الشعبوية مثلها مثل التي سبقتها لا تخدم في الحقيقة إلا الأقلية الكمبرادورية وكبرى الشركات والمؤسسات الأجنبية التي راكمت أرباحا خيالية مستغلة الأزمات (أزمة كورونا، تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية…) على حساب الأغلبية الشعبية من مختلف القطاعات التي ازدادت فقرا وباتت تتعرض لمزيد التضييق والصعوبات والعجز نتيجة تدهور القدرة الشرائية والارتفاع الجنوني للأسعار وندرة المواد الأساسية وانسداد آفاق التشغيل وتدهور الخدمات الاجتماعية (صحة، تعليم، بيئة…). وحتى المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي رصدت لها الميزانية خط تمويل بدعوى تنشيطها ومساعدتها على النهوض والإنتاج وتحقيق الأرباح فإنها تتخبط في العجز بسبب نقص التجهيزات والأموال وعدم القدرة على تسويق إنتاجها إن نجحت في الوصول إلى هذه المرحلة.
وحتى ما يسمى بالشركات الأهلية التي تتمتع بخط تمويل مضاعف (ضعف ما تحصل عليه المؤسسات الصغرى والمتوسطة) باعتبارها منتوجا للمنظومة الشعبوية يراد له “النجاح” وكسب مزيد الأنصار (زبونية اقتصادية) فإنها تعيش بدورها حالة من التعطل والعجز للأسباب نفسها ولا يمكن أن تحل مشاكل خلق الثروة وتشغيل الشباب.
إن هذا الفشل والتعطل لا يمكن تجاوزه إلا عبر إجراءات وحلول جذرية.
البلاد بحاجة إلى خيارات جديدة
أولا، لابد من وضع حد لسياسة الاقتراض والتداين الخارجي والبحث عن مصادر تمويل خارج هذا الإطار الذي عمق التبعية وأغرق البلاد في مزيد الأزمات. والحل في هذا السياق يتمثل في تعليق خلاص الديون الخارجية لمدة خمسة سنوات وسن ضريبة استثنائية على الثروات الكبرى واسترجاع الأموال المنهوبة في الداخل (ديون متخلدة بذمة بعض المؤسسات ورجال الأعمال) والخارج، وإقرار ضريبة تصاعدية على المداخيل والأرباح (عدالة جبائية) والكف عن الاستيراد العشوائي…
ثانيا، لابد من القطع مع الاقتصاد الريعي الهش الموجه للتصدير لصالح اقتصاد وطني مندمج وشعبي موجه لإنتاج الثروة وتشغيل العاطلين مع أولوية الاستجابة للطلبات المحلية سواء في المجتمع (مواد غذائية، أدوية، ملابس، أدوات مدرسية… وكل مستلزمات الحياة) أو في قطاعات الإنتاج (أدوات إنتاج، بذور، أسمدة، تجهيزات مختلفة…) على أن يتركز هذا الاقتصاد أساسا في القطاعات الاستراتيجية من فلاحة وصناعة وبنية تحتية إلى جانب قطاع الخدمات. وتتكفل الدولة من خلال مؤسسات وطنية عمومية بهذا النوع من النشاط الذي من شأنه، في حالة النجاح، أن يشجع القطاع الخاص على بعث المؤسسات الإنتاجية في مختلف المجالات على أن توجه أولا وأساسا لخدمة الحاجيات المحلية.
ثالثا، ضرورة الاستجابة للمطالب الاجتماعية المزمنة وفي مقدمتها القضاء على الشغل الهش وتحسين جدي للقدرة الشرائية وفق مقاييس علمية من خلال الترفيع في الأجور ومضاعفة الأجر الأدنى، وتحسين لظروف العمل والخدمات الاجتماعية… وهذه الإجراءات من شأنها أن تساهم في تطوير الاستهلاك وتوسيع السوق المحلية والمساهمة في خلق فوائض وأرباح للمؤسسات الوطنية تساعدها على تجويد وتطوير إنتاجها وتصدير ما زاد عن الحاجة الداخلية.
رابعا، وفي خطوة سيادية راقية لابد من إلغاء كل ديون تونس الخارجية وتأميم المؤسسات الأجنبية، ومصادرة أملاك البورجوازية الكمبرادورية باعتبارها أملاك غير مشروعة وجعلها ملكا للدولة الديمقراطية الشعبية التي تكون السلطة فيها للشعب عبر مؤسسات تمثيلية منتخبة ديمقراطيا، تمثل فيها كل الفئات الشعبية من عمال وفلاحين وموظفين وشباب ونساء… حسب نسب يحددها القانون الانتخابي.
إن هذه الإجراءات الثورية وغيرها كفيلة بالخروج بالبلاد من منطقة الأزمات والتخلص من التبعية المذلة والقطع مع الاستبداد والفساد والاستغلال. لكن هذه الإجراءات بحاجة إلى نخب تقدمية وثورية وديمقراطية منحازة لمصالح الشعب وقادرة على قيادته نحو الخلاص النهائي من المنظومات السابقة التي كرست جميعها التبعية والاستغلال، وعلى فرض الخيارات الجديدة على ارض الواقع مع الشعب ولصالح الشعب.
لقد عملت كل المنظومات السابقة على تغييب الشعب وإبعاده عن سلطة القرار وحان الوقت لقلب الأوضاع رأسا على عقب وإحلال السلطة الشعبية محل القديم البائد.
كل السلطة للشعب،
من أجل الديمقراطية الشعبية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية.