بقلم علي المالكي
لطالما استوجبت الحركة الثورية المتماسكة عناصر ثورية متماسكة، متعاضدة ومتضامنة، يكون الفرد فيها على استعدادٍ للتضحية بدلاً عن رفيقه وعن تنظيمه الثوري، فلا حركة ثورية قادرة علي النجاح دون الالتزام الصّارم بمبدإ العمل الجماعي الذي من متطلباته سيادة الروح الرفاقية.
وخصال المناضل تتجسّد وتتكرّس في ثقافته وسلوكه اليومي وفي تصويب أداءه وسلوكاته، مع رفيقاته ورفاقه أو حتى مع عموم الناس، وسواء ضمن قيادته التنظمية أو لمن هم في مسؤوليته في تنفيذ المهام النضالية. وتجسيد صفة المناضل الشيوعي لم تأت من فراغ، بل إنها جوهر المبادئ والأخلاق الشيوعية في الحزب الثوري والمتأصّلة في أطروحاته ومدوّنته الفكرية والنظرية، والتي بفضلها يمكن بناء الكادر الحزبي الذي يناضل ويقاتل ويواجه ويكتب ويضحّي ويستشهد إن لزم الأمر.
16 جوان 1989 يوم حزين في ذاكرة مناضلات ومناضلي حزب العمال وفصيله الشبابي اتحاد الشباب الشيوعي التونسي وعموم مناضلي الشباب الطلابي التقدّمي.
16 جوان 2024 هو الذكرى الخامسة والثلاثين (35) لانطفاء شمعة فاطمة البحري، أو “رتّا ” الإسم الحركي التي عُرِفت به لدى رفاقها في اتحاد الشباب الشيوعي التونسي، في حادث مرور قاتل..
لقد كان لوفاة فاطمة البحري، “رتا”، وقعٌ كبير على كل الذين عرفوها عن قرب في ساحات النضال الطلابية وخارجها. فقد كانت مثالا للشيوعي الحقيقي، وتُحظى باحترام الجميع، من كافة التيارات الفكرية والسياسية في كلية الآداب بمنوبة وفي الجامعة التونسية، بالنظر لدورها الفعّال في إنجاز المؤتمر 18 خ.ع. للاتحاد العام لطلبة تونس ولدفاعها على مصالح عموم الطلبة، لمبدئيّتها ونزاهتها وشجاعتها. كما كانت لها مكانة كبيرة في صفوف حزب العمال الشيوعي التونسي الذي كانت رغم صغر سنّها من أوائل المنخرطين في صفوفه إثر إعلان تأسيسه.
وُلدت فاطمة البحري في أحد الأرياف المنسيّة (ريف بني مالك – آزمور من معتمدية قليبية). وبعد أن أنهت تعليمها الابتدائي بمدرسة زاوية آزمور والثانوي بمعهد عبد العزيز خوجة بنجاح، التحقت بكلية الآداب بمنوبة حيث درست الآداب الفرنسية. وكانت الفقيدة منذ مرحلة التعليم الثانوي تنشط في صفوف اليسار وصدر لها نص بجريدة الرأي حول رداءة الأكلة المقدّمة للتلاميذ المقيمين وأطردت بسببه من جميع المعاهد التونسية سنة 1981 وبسبب نشاطها عموما في الحركة التلمذية. ولمّا أعِلن عن تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي في 3 جانفي 1986 التحقت به وتميّزت بدفاعها المستميت عن خطه الثوري في الجامعة وفي النوادي الثقافية (نادي باب العسل) والنسائية (نادي الطاهر الحداد)، وقد تميّزت فاطمة البحري بنشاطها الميداني. فقد كانت حاضرة في كلّ المعارك التي شهدتها الجامعة وقتها (ما بين 1986 – 1989) ضدّ الدكتاتورية، وكانت خطيبة بارعة، لها قدرة فائقة على تعبئة الطالبات والطلبة في الإضرابات والتجمّعات والمسيرات. ولم تكن تخشى المواجهات مع البوليس في الكلية وفي الشارع.
ورغم بروزها في النضالات العلنية، فقد كانت تتمتّع بقدرات كبيرة للقيام بمهام غاية في السريّة. كانت “رتّا” تتكيّف وتغيّر هيئتها لحضور موعد سرّي أو لنقل أدبٍ. وفي أواخر شهر ماي شعرت ببعض الآلام فقررت زيارة أحد الأطباء بمدينة جندوبة من أصدقاء الحزب. وفي طريق العودة إلى تونس اصطدمت السيارة التي كانت تقلّها بسيارة أخرى وتوفّيت على عين المكان تاركة لوعة كبيرة في قلوب أفراد عائلتها ورفيقاتها ورفاقها، وكل الطالبات والطلبة من أبناء جيلها الذين لقّبوها بـ”رتّا” تيمّنا برتا مرسال خليفة.
وكان من بين الذين التاعوا لرحيلها، رفيقها الشاعر الراحل الطاهر الهمامي. وقد أوحى له رحيلها بالقصيد التالي:
“أشرس العاشقات” المناضلة فاطمة البحري “رتّا”
بين عينيَّ حمرةُ ذاك القرنفلْ
وخضرة ذاك النخيل
وجمرة ذاك اللسان
وأقباس تلك العيون
وروعةُ ذاك الجنون
بين عينيَّ ذاك الخيال الضئيل
وذاك الجبين الذي تحدّى
وأسقط من مستحيل
بين عينيّ…
تلك التي كانت الكونَ
واللون
في دربنا
والهُويّة
التي كانت الكبرياء
والوفاء
ومجد القضيه
بين عينيّ…
(2)
من تُرى لم تحيِّرهُ رتّا؟
من تُرى لم تُغيِّره رتَّا؟
من تُرى لم تُعيِّرْهُ رتَّا؟
ولم تشعل النار في فكره وتؤجِّجْهُ حتّى…؟
رحلتْ ! من يُصدِّق؟ بالأمس كانت هنا، ها هُنا
أشرس العاشقات
صوتُها، خطوُها،
رفَّةُ الأجنحة
قبضة النصر
والأغنيات
حلم رتّا
وأشواقها والهُيام
أن يعيش الحمام
حلمُ رتَّا
سلام على وجْهِ هذي الخريطه
سلام على دمها والعِظام
على كلّ ذرّه
وحَبّه
أحبّت رحاب الفضاء
وسنبلةٍ عشقت أن ترى الأرض حُرَّه
سلام سلام سلام
ولكنّ ظُلم الظلام…
حلم رتّا… صغير
يا لحلم الفراخ التي أوشكت أن تطير
ولكنّ سجنًا كبير
وأهوية نزقه
وعيونا ومرتزقه
وجرادًا كثير…
(3)
يا لرتّا اللهب
اطمئني حبيبتَنا
وثقي أن قلبك فينا اضطرب
يا لرتَّـا الغضب
اطمئني حبيبتنا
وثقي أن جيشك لا ينسحب
(4)
سافرتْ فاطمه
وهي عائدةٌ في المواعيد، قد وعدتْ
سافرتْ، سافرتْ
أيّها الرّائعون
سافرت
وهي قادمةٌ
في الزمان
الذي تصنعون!
تونس 1989
الطاهر الهمّامي – من ديوان “تأبط نارا”