الرئيسية / صوت الاقتصاد / الهيدروجين الأخضر في تونس: استنزاف الموارد لصالح الاستعمار الجديد
الهيدروجين الأخضر في تونس: استنزاف الموارد لصالح الاستعمار الجديد

الهيدروجين الأخضر في تونس: استنزاف الموارد لصالح الاستعمار الجديد

بقلم إلياس بن عمار (*)

وقعت الحكومة التونسية خلال الأسابيع الفارطة اتفاقيات مع شركات متعددة الجنسيات من أجل تسهيل إنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر نحو الضفة الشمالية للمتوسط. وتندرج هذه الاتفاقيات في سياق تطبيق ما تضمنته الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر المعدّة من طرف سلطة الإشراف بالتعاون مع الشريك التقليدي في المجال ألا وهو الوكالة الألمانية للتعاون الفني. هذه الاستراتيجية تحتوي على كافة الآليات بما في ذلك خارطة الطريق الكفيلة بتحقيق الهدف المحدد والمتمثل في تصدير 6 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر نحو أوروبا في غضون سنة 2050.
ويعتبر الهيدروجين الأخضر حلقة جديدة من حلقات الاستيلاء على ثروات الشعوب من طرف الدوائر الرأسمالية العالمية (خصوصا الألمانية) للاستجابة لحاجيات صناعاتها والنفاذ إلى مصادر الطاقة لدى دول الجنوب خصوصا في ظل التصاعد المحموم للصراع حول مناطق النفوذ بين الرأسماليات.
وسيتناول المقال كل هذا وتداعياته على البلاد التونسية.

1. لماذا الهيدروجين الأخضر؟

يعتبر الهيدروجين من أكثر العناصر انتشارا على وجه الأرض. كما يتمتع بقدرة طاقية محترمة تؤهله ليكون ناقلا طاقيا رغم المخاطر وبعض العراقيل الأخرى المتعلقة بالسعة اللازمة وكذلك بالمردودية وتحويل الطاقة عبره. فهذا العنصر الأخف من بين كل العناصر يندر العثور عليه مستقلا في شكل غاز H2 (ما اصطلح على تسميته الهيدروجين الأبيض) وإنما في أغلب الحالات يكون مركبا مع جزيئات أخرى (مثل الماء أو الغاز الطبيعي) وهو ما يستلزم تفاعلات كيميائية وفيزيائية لاستخراجه ويتم ربط كل عملية بلون معين حسب المصدر والآلية:

  • الهيدروجين الأسود من الفحم الحجري
  • الهيدروجين الرمادي من الغاز الطبيعي
  • الهيدروجين الأزرق من الغاز الطبيعي مع تحصيل ثاني أكسيد الكربون
  • الهيدروجين البنفسجي أو الوردي عبر التحليل الكهربائي للمياه باستعمال الطاقة النووية
  • الهيدروجين الأخضر عبر التحليل الكهربائي للمياه باستعمال الطاقات المتجددة

وفي خضم ما يشهده العالم من حديث حول الأزمة المناخية وما تتطلبه من استبدال استخدام الطاقات الأحفورية بأخرى “صديقة للبيئة”، بالإضافة لرغبة دول الشمال في الاستئثار بالموارد الطبيعية لدول الجنوب والبحث عن الوسائل التقنية لتحويل الطاقة لبلدانهم، تم طرح الهيدروجين الأخضر كمشروع ضخم خصوصا لدى الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا. وقد تمّ التسريع في نسق هذا المشروع عبر حشد الإمكانيات المادية واللوجستية وكذلك بالوسائل الدبلوماسية الناعمة لحد الآن خصوصا بعد اندلاع الحرب الروسية الأكرانية والرغبة في تعويض الغاز الروسي عبر إمدادات آمنة من الطاقة ومن دول يمكن السيطرة على قراراتها بسهولة على خلاف الجار الروسي.

2. كلفة الهيدروجين الأخضر:

تعتزم الحكومة التونسية إذن، تصدير ما يقارب 6 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر في استجابة واضحة لمخططات الاتحاد الأوروبي في تلبية نصف حاجياته من هذه المادة عبر التوريد في غضون سنة 2050. وقد اندفع العديد من المطبلين والمهللين لاعتبار ذلك إنجازا عظيما سيدر على البلاد مكاسب جمة ويوفر لها الرخاء، متغافلين عمّا يمكن أن يكون لهذا المشروع من آثار وانعكاسات سلبية بالإضافة لتعزيز موقعنا كدولة تابعة ومجال لتحقيق أرباح لصالح الاستثمارات الأجنبية وتكريس للنمط الاستخراجي في التعامل مع ثرواتنا الطبيعية.
فإنتاج وتصدير الهيدروجين سيكلف المجموعة الوطنية استنزافا لأحد أهم ثروات البلاد والمتمثلة في المياه التي كان يمكن استغلالها في إحياء الأراضي وتوفيرها كمياه شرب للأهالي في بلد تجاوز الحدود الحمراء في الشح المائي ومن أكثر الدول المهددة بالعطش خلال السنوات القادمة. كما أن حجة المطبلين للمشروع التي تؤكد عدم المساس بالمياه الجوفية والاقتصار على تحلية مياه البحر وبالنظر للكميات المبرمجة للتحلية (ما يقارب 250 مليون متر مكعب أي ما يعادل ربع احتياجات البلاد من مياه الشرب سنة 2050) تعبّر عن جهل هؤلاء بالوضعية الحالية والمستقبلية لقطاع المياه في تونس. فنظرة متمعنة في التقرير الصادر عن وزارة الفلاحة بخصوص استراتيجية المياه في تونس في غضون سنة 2050 (الصادر في أكتوبر 2022) تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن تحلية المياه هو السبيل الوحيد لمعالجة النقص الحاد في التساقطات السنوية نتيجة تأثير التغيرات المناخية وبالتالي يجب توجيهها (أي عمليات التحلية) لصالح تلبية الحاجيات الوطنية أساسا. أمّا المياه الجوفية فهي غير متجددة وتمثل خزانا على المدى البعيد لصالح الأجيال القادمة ولا يحق لأي كان التصرف فيها حاليا دون فتح نقاش مجتمعي ومواطني بشأنها.
أمّا بخصوص الكلفة الطاقية لتحلية المياه لصالح هذا المشروع فهي مهولة وتمثل استنزافا للمخزون التونسي في مجال الطاقات المتجددة. فالقدرة المركزة المقررة لمشاريع الهيدروجين الأخضر تناهز 100 جيغاوات أي ما يقارب نصف مخزون البلاد من الطاقات الشمسية (الذي يقدر بأكثر من 200 جيغاوات) وما يفوق مخزون البلاد من طاقة الرياح الأرضية (92 جيغاوات). هذه الأرقام كفيلة بالرد على المشككين في خطورة المشروع الذي سيستنزف موارد البلاد الطاقية المستقبلية لتلبية حاجيات أوروبا عبر شركات أجنبية وهو ما يعمّق الاستغلال ويجعل البلاد التونسية مجرد فضاء لتحقيق فوائض ربحية سيكون مآلها خارج البلاد.
كل هذه القدرة من الطاقات المتجددة تستلزم استغلال مساحات شاسعة من الأراضي والتي تقدر حسب ما ذكر بالاستراتيجية الوطنية المذكورة أعلاه بقرابة 500 ألف هكتار متمركزة بالجنوب التونسي وتشمل كل من ولايات قابس وقبلي ومدنين وتطاوين. وهنا لابدّ من التساؤل حول صيغة هذه الأراضي وملكيتها (دولية أو مشاع) وهل تمت استشارة الأهالي قبل برمجتها ضمن هذا النوع من المشاريع أم أن القرارات كانت مسقطة كالعادة إرضاء للمستثمرين الأجانب؟

3. استثمار أم استعمار؟

يستند المدافعون عن المشروع إلى جملة من التبريرات التي لطالما ذكرت كلما تعلق الأمر باستغلال ثروات البلاد واستنزافها من طرف الاستثمارات الأجنبية المباشرة وهي خلق مواطن الشغل وتوفير العملة الصعبة. هذه التبريرات لا تمت إلى الواقع بصلة لأن النمط الاستخراجي المعتمد لاستنزاف الموارد – ولنا في ذلك العديد من التجارب – يعتمد على خلق مواطن شغل هشة ومؤقتة ذات قيمة مضافة ضعيفة وتستنزف العملة الصعبة عبر توريد التكنولوجيا (بالطبع دون نقلها يعني

تكريس التبعية التقنية). فيما سيتم تحويل العوائد (في شكل عملة صعبة) إلى الخارج باعتبار أن المستغلين شركات أجنبية دون الغوص في القروض التي ستتحمل أعبائها المجموعة الوطنية من أجل تجهيز البنية التحتية اللازمة لاستقبال هذه الاستثمارات.
ومن أجل مزيد تدعيم الفكرة بأن ما يحدث هو استنساخ للنموذج الاستعماري في نهب ثروات شعوب الجنوب وتطويعها لصالح حاجيات دول الشمال نقدم للقراء ما تضمنه تقرير أكاديمية العلوم الفرنسية حول الهيدروجين الأخضر الذي فنّد الأكاذيب التي تروّجها بعض الهيئات الأجنبية (خاصة الألمانية):
“الاتحاد الأوربي، خصوصا تحت ضغط ألمانيا التي ترى في الهيدروجين الأخضر أداة أساسية في التخلص من الوقود الأحفوري وتقليص تبعيتها للغاز الروسي، يسعى إلى نموّ سريع في مجال استعمال الهيدروجين تحديدا عبر الميثاق الأخضر للصناعة (المضمن بالمخطط الأوروبي للطاقة المعد سنة 2020). لكن الأرقام الهائلة المقترحة في غضون سنة 2050 تبدو غير واقعية…
30 مليون طن إضافية سيتم توريدها من بلدان خارج الاتحاد الأوروبي مثل إفريقيا الشمالية، الشرق الأوسط أو الخليج الفارسي (العربي) الذين يتمتعون بإمكانيات كبيرة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية. هذا السيناريو يستلزم تركيز محطات تحلية مياه في هذه البلدان وبنية تحتية لنقل الهيدروجين، كلها غير موجودة في الوقت الحالي.
هذه الضرورة للتوريد مرتبطة في جانب منها بإنهاء عمل المحطات النووية غي عديد بلدان الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وبلجيكيا واستحالة توفير الكهرباء بالاعتماد فقط على محطات الطاقة الشمسية أو الرياح. وهنا يجب التنبيه بأن هذه السياسة ستؤدي لتعويض التبعية للوقود الأحفوري بتبعية جديدة للهيدروجين. وهو ما سيطرح إشكاليات جمة مرتبطة بعدم استقرار السياق الجيوسياسي للبلدان التي سينتج فيها الهيدروجين وسيتم نقله منها. علاوة على ذلك، يمكن وصف هذه السياسة بأنها استعمار جديد”.
تقرير أكاديمية العلوم… الهيدروجين اليوم وغدا، 9 أفريل 2024، ص8-9.
Rapport de l’Académie des sciences, L’hydrogène aujourd’hui et demain, 9 avril 2024, pages 8-9.

(*) إلياس بن عمار، عضو الجامعة العامة للكهرباء والغاز وعضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة.

إلى الأعلى
×