الرئيسية / رأي / هل نقول “إسرائيل”؟ هل نخوّن من يقولها؟
هل نقول “إسرائيل”؟ هل نخوّن من يقولها؟

هل نقول “إسرائيل”؟ هل نخوّن من يقولها؟

أو أنقذونا من هذا الحبّ القاسي

(درويش – مجلّة الجديد العدد 6 سنة 1969، أي بعد سنتين من هزيمة 67)

بقلم عمر حفيّظ

في كتاب عبده وازن “محمود درويش الغريب يقع على نفسه” (رياض الرّيس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، 2006، ص123-124)، سأل عبده وازن محمود درويش: عندما تقرأ شاعرا إسرائيليّا يتغنّى بأرض فلسطين، ماذا يكون شعورك؟
فأجابه: يأخذني شعوري إلى أنّ الصّراع بيننا ليس عسكريّا فقط، نحن مدفوعون إلى صراع ثقافيّ عميق. مثلا هناك شاعر إسرائيليّ كبير أحبّ شعره، هو يهودا عميحاي، لم يَدَعْ مكانا في فلسطين – وهو يسمّيها أرض إسرائيل – إلاّ كتب فيه قصائد. بعضها جميل جدّا. ويحرج الشّاعر الفلسطينيّ. يحرجه في أيّ معنى؟
الشّاعر الفلسطينيّ لم يشعر يوما بأنّه محتاج إلى تقديم براهين على حقّه في المكان. وعلاقته بالأرض تلقائيّة وعفويّة ولا تحتاج إلى أيّ أيديولوجيا أو تبرير. الشّاعر الإسرائيليّ الذي يعرف كيف تمّ مشروعه وماذا كان قبل إسرائيل والذي يعرف أيضا أنّ هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطين، هذا الشّاعر في حاجة إلى شحذ كلّ طاقاته الإبداعيّة من أجل امتلاك المكان باللّغة كجزء مكمّل للمشروع الاستيطانيّ. وبالتّالي فهذه المسألة مخيفة: من يكتب المكان في شكل أجمل يستحقّ المكان أكثر من الآخر.
هذا الكلام لدرويش الذي حمل معه القضيّة الفلسطينيّة في شعره وفي نثره ودافع عنها في كلّ مكان من العالم، وقد تُرجم شعره إلى لغات العالم السّائدة (الفرنسيّة، الإيطاليّة، الإنجليزيّة، الألمانيّة، الرّوسيّة…)، استحضرته وأنا أتابع ما كُتب من تعليقات في شأن أطروحة أشرف عليها الأستاذ فوزي البدوي في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بمنّوبة، أنجزتها باحثة وناقشتها لجنة يوم الأربعاء 5 جوان 2024.
الأطروحة بعنوان: إشكاليّة الدّين والدّولة في “إسرائيل”
واللاّفت هو انقسام المهتمّين بالشّأن العامّ إلى فريقين: فريق مندّد مشهّر يتّهم الأستاذ المشرف والباحثة والجامعة التّونسيّة بالتّطبيع لذكر “إسرائيل” في العنوان. وفريق لا يرى في ذكر “إسرائيل” أيّ تطبيع أو خيانة، وإنّما هي مقتضيات البحث العلميّ وإكراهات الواقع.
ولسنا في وارد الدّفاع أو الهجوم لذلك سنكتفي ببعض الملاحظات وطرح بعض الأسئلة لنفكّر بصوت عال يحتاجه واقعنا بعيدا عن المزايدات الشّعبويّة لأنّ الأمر يحتاج إلى أن نفهم ونفكّر في “كيف نقاوم؟” وليس “كيف نصرخ؟” أو كيف نرفع شعارا هنا وآخر هناك بحماسة لا نظير لها ولكن لا مردود لها كذلك.
1. “إسرائيل” كلمة موضوعة بين مزدوجتين. وهذا عمل مقصود. ومن وظائف المزدوجتين تمييز الكلام المنقول الموضوع بين تينك المزدوجتين من كلام الأنا. فالباحثة، إذن، وأستاذها كذلك قصدا التّنصيص طباعيّا على وضع الكلمة في محلّها ذاك وصورتها تلك لموقفهما من “إسرائيل” واقعا.
2. “إسرائيل” واقعا؟ هل نسمّيها أم نقول الكيان الصّهيونيّ فقط؟ هل في تسميتها اعتراف بها؟ وهل في نكران التّسمية محو لها من الوجود باعتبارها قاعدة عسكريّة امبرياليّة جاثمة على قلوبنا منذ قرار التّقسيم رقم 181 الذي اتّخذته الجمعيّة العامّة التّابعة لهيئة الأمم المتّحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1947.
منذ هذا التّاريخ صرنا إزاء واقع جديد، مثلما صرنا بعد هزيمة 1967 إزاء واقع جديد، مثلما صرنا بعد 7 أكتوبر 2023 إزاء واقع جديد. هو واقع المقاومة التي قدرت على تغيير صورة “إسرائيل” بالنّسبة إلى الصّهاينة ذاتهم، وما يصلنا من أخبار عن انقساماتهم واختلافهم حول استمرار الحرب أو إيقافها وحول الهدنة وغير ذلك ليس إلاّ دليلا على أنّ “إسرائيل-الواقع” لم يغيّرها تسميتنا نحن لها أو عدم تسميتها وإنّما غيّرها واقع آخر ووقائع أخرى هي المقاومة. وحتّى بالنّسبة إلى الغربيّين وخاصّة الشّعوب الغربيّة التي لم تفارق الشّوارع منذ أشهر للاحتجاج على الحرب على غزّة-فلسطين، حتّى بالنّسبة إلى تلك الشّعوب، فإنّ المسألة ليست مسألة تسمية بقدر ما هي مسألة واقعيّة معيشة تحتاج منهم إلى موقف وإعادة نظر في ما أوقعهم فيه إعلامهم وحكوماتهم من تضليل. فكم سمع الغربيّون من قَبْلُ كلمات من قبيل: احتلال، صهيونيّة، تدمير، قتل، تهجير… لكنّهم لم يخرجوا ولم يحتجّوا ولم يُندّدوا مثلما خرجوا واحتجّوا وندّدوا الآن بل لم يفعلوا شيئا في السّابق، وهاهم الآن ينتصرون للقضيّة أكثر من انتصار أصحابها لها.
لماذا؟؟؟
لأنّ المسألة ليست مسألة تسمية أو حماسة أو شعبويّة بائسة ترفع شعارات دون أن تفكّر في كيفيّات تحقيقها وتحويلها إلى وقائع. المسألة مسألة معرفة ووقوف على الحقائق والوقائع. وقد ساهمت وسائل التّواصل الاجتماعيّ في التّعبئة والفضح والكشف. ومن المفترَضِ أن يكون واجبنا نحن أصحاب القضيّة أن نفضح خطاب المظلوميّة الذي يتردّد على ألسنة الصّهاينة في كلّ مكان. فهم لا يكفّون عن بناء صورهم بمنطق الضّحيّة التي تستنصر الآخرين لحمايتها. ويستنجدون في بناء صورة الضّحيّة بكلّ شيء: بالخرافة، بالأسطورة، بالدّين، بالشّعر، بالمال… وها هنا أذكّر بما بدأت به أي بكلام درويش: يأخذني شعوري إلى أنّ الصّراع بيننا ليس عسكريّا فقط، نحن مدفوعون إلى صراع ثقافيّ عميق.
بمَ سنخوض هذا الصّراع الثّقافيّ العميق؟؟؟ بتخوين فوزي البدويّ؟ بشتم من يقول: إسرائيل؟
أم نخوض الصّراع بالغوص على تفاصيل التّفاصيل في اليهوديّة والصّهيونيّة وآدابها وتراثها وتاريخها وثقافتها وأساطيرها وعقائدها ومتخيّلها وتمثّلها للآخر وللوجود؟؟؟؟؟؟؟
هل سينتهي هذا الصّراع اليوم أو غدا؟ لا، قطعا!
حرّاس هذا الصّراع شرقا وغربا حريصون على دوامه، والإمبرياليّة تجدّده باستمرار وتجدّد طرائقه وتختلق سرديّاته. وقد كتب عن هذا الكثير حتّى من قبل يهود معادين للصّهيونيّة ولفكرة الدّولة اليهوديّة. ولكن ماذا فعلنا نحن؟؟؟؟
يلقي فوزي البدويّ وطلبته أسئلة في العتمة أو الظّلام، وعوض أن نساعدهم على الحفر في أغوار ذاك الحيز المعتم المظلم سارعنا إلى التّخوين والاتّهام بالتّطبيع (وما أسرعنا إلى إلقاء التّهم) وبعضنا لم يطّلع على العمل أصلا. ما أشبه اليوم بالبارحة، فقديما قيل: هذا على الحساب قبل أن نقرأ الكتاب.
ما هكذا تُخاض الصّراعات. وقد كتبت هذا الذي كتبتُ لأنّي من المؤمنين دائما والمنادين باستمرار بإيلاء الثّقافيّ والمعرفيّ المنزلة التي تليق بهما في أيّ صراع. فأعتى الحروب ليست الحروب العسكريّة، وإنّما هي الحروب الثّقافيّة المعرفيّة لو تدرون. وأحبّ أن أسأل من أعمتهم الحماسة للشّعارات: منذ متى ونحن نرفع شعار “خيبر خيبر يا يهود، جيش محمّد سوف يعود! وسنرميهم في البحر!”
الشّعارات لا تصنع واقعا. الوعي هو الذي يغيّر الواقع. والوعي ليس إلاّ نتيجة للاشتغال بالثّقافيّ في معناه العامّ. فتغيير رأي أو تعديله لا يكون بالشّعارات وإنّما بإعادة بنائه وتشكيله. وإعادة البناء والتّشكيل إنّما هي عمليّة ثقافيّة معرفيّة من شروطها حريّة التّفكير والتّعبير والبحث العلميّ واحترام القيم الجامعيّة وصونها من أن تصبح موضوعا يخوض فيه كلّ من هبّ ودبّ باسم الشّعبويّة والدّفاع عن القضيّة التي لا يعرف كثيرون كيف يدافعون عنها.
أن نفهم العلاقة المكينة بين اليهوديّة والصّهيونيّة ودورهما في تشكيل وعي الآخر والتّأثير في الشّعوب الأوروبيّة ودور رأس المال والإمبريالية في ذلك، وأن نبحث في تأثير هذا العصر الرّقميّ في هذه الأجيال الحاضرة في المعاهد والجامعات، وتأثيره في عقولها وأمزجتها وانفعالاتها، وأن نفهم لماذا تفشل انتفاضاتنا، وكيف يُوظّف الدّينيّ والمقدّس في الفشل أو الإفشال، وأن نسأل: لماذا ينقسم المسلمون إلى ملل ونحل متناحرة بسبب حديث أو رأي فقهيّ أو اجتهاد شخص مات منذ آلاف السّنوات،،، أن نتنافس في هذا وأن نجتهد فيه أفضل ألف مرّة من أن ننخرط في الاستسهال والتّبسيط.

إلى الأعلى
×