بقلم عادل ثابت
جرت انتخابات البرلمان الأوروبي بين 6 و9 جوان في الـ27 دولة المكونة للاتحاد الأوروبي لانتخاب 720 نائب.
حقق اليمين المتطرف تقدما هاما في أغلب البلدان مقارنة بانتخابات 2019 باستثناء تراجعه في بعض البلدان وأساسا بلدان البلطيق أين يخيّم شبح الحرب الروسية الأوكرانية على المشهد.
وتعدّ فرنسا المثال الأكثر رمزية للفوز الساحق لليمين الفاشي والعنصري في هذه الانتخابات، حيث حل حزب “التجمع الوطني” (“الجبهة الوطنية” سابقا) في المرتبة الأولى بنسبة 31.4 % من الأصوات المصرح بها، أي أكثر من ضعف النسبة (14.6%) التي حصل عليها حزب الرئيس ماكرون الذي حلّ في المرتبة الثانية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مختلف قائمات اليمين المتطرف تصل نسبة الأصوات التي حصلت عليها مجمعة حوالي 40%. أمّا أحزاب اليسار التي شاركت في هذه الانتخابات بقائمات منفردة فإنها لم تكن في موقع يخوّل إليها الرهان على الفوز بالمرتبة الأولى رغم التقدم الذي أحرزته مقارنة بانتخابات 2019 وقد حصلت مجمّعة على نسبة تناهز الـ32 %.
أمام هذه الهزيمة النكراء، سارع ماكرون الذي أصبح حكمه أكثر من أيّ وقت مضى في مهب الرياح بحل مجلس النواب والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، سينتظم دورها الأوّل يوم الأحد 30 جوان الجاري ودورها الثاني يوم الأحد الموالي، آملا في الحصول على أغلبية نيابية تمكنه من الحفاظ استقرار حكمه للفترة المتبقية من عهدته الرئاسية التي تمتدّ إلى 2027.
هزيمة مدوّية ناتجة عن أزمة عميقة
لم تكن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي في فرنسا مفاجئة هذه المرة، رغم الفوز التاريخي لليمين المتطرف، بل جاءت متناسقة مع ما توقعته مختلف استطلاعات سبر الآراء، كما أكدت مرة أخرى الرفض الواسع لماكرون وسياسته من طرف غالبية الشعب الفرنسي وبصفة خاصة الفئات الشعبية، هذه الفئات التي تدفع كل يوم فاتورة سياسته النيوليبرالية المتوحشة المنحازة لمصالح الأثرياء والرأسمال الكبير في شكل هبات وتخفيضات في الضرائب على حساب الحقوق الاجتماعية (التعليم العمومي، مجانية الصحة العمومية، مراجعة قانون التقاعد، مراجعة التأمين على البطالة، مراجعة قانون الهجرة في اتجاه أكثر عنصرية…) والاقتصادية (تجميد الأجور، غلاء المعيشة…) والسياسية (تجريم الاحتجاجات الاجتماعية، قمع انتفاضة شباب الأحياء الشعبية في الصيف الماضي، قمع التحركات المناصرة لفلسطين…). ورغم دخول ماكرون بنفسه معترك الحملة الانتخابية وما أعلنه من قرارات في الأيام الأخيرة بخصوص الدعم العسكري لأوكرانيا في حربها مع روسيا، أهمّها تمكين زيلينسكي من طائرات مقاتلة من طراز ميراج 2000-5، فإن ذلك لم يغيّر شيئا من نتائج الانتخابات.
هذا الرفض لماكرون ولمنظومته ليس جديدا، لقد بان بوضوح خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة بعد عهدة حكمه الأولى (2017-2022) التي أصبح يلقب خلالها بـ”رئيس الأغنياء”. الكل يعلم أن فوزه في الانتخابات الرئاسية في 2022 لم يكن اختيارا وانتصارا لمشروعه من قبل الناخبين بقدر ما جاء لسدّ الباب أمام وصول زعيمة اليمين الفاشي مارين لوبان للرئاسة. الكل يعلم أيضا أن ماكرون، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، لم ينل ثقة الناخبين في الانتخابات التشريعية ولم ينجح في تشكيل أغلبية برلمانية للحكم، ممّا جعله غالبا ما يتجنّب عرض مشاريع قوانينه أمام البرلمان للنقاش والتصويت عليها ويلتجأ إلى تمريرها بالقوة عبر استعمال الفصل 49.3 من الدستور، وقد شكّل ذلك أحد أوجه تعميق الأزمة الديمقراطية التي تتخبط فيها منظومة الحكم.
هديّة لليمين الفاشي وقفزة في المجهول
مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الأوروبية في فرنسا، أعلن ماكرون مساء الأحد الماضي عن قراره بحل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في أجل ثلاثة أسابيع. هذا القرار الذي اتخذه ماكرون ولم يتشاور فيه سوى مع عدد قليل من المقرّبين كان بمثابة المفاجأة بما في ذلك لرئيس حكومته وقياديي حزبه، خصوصا وأنه بدا كاستجابة لمطلب اليمين الفاشي بحلّ البرلمان إثر فوزه الساحق في الانتخابات الأوروبية، ليكون بذلك مرشحا أكثر من غيره للفوز بالتشريعية السابقة لأوانها خصوصا مع ضيق الآجال قبل الدور الأوّل لتلك الانتخابات (30 جوان الجاري).
هكذا إذن، فعوض مراجعة سياسته اللاشعبية، قرّر ماكرون دعوة الناخبين إلى صندوق الاقتراع في محاولة بائسة لابتزاز أصواتهم وابتزاز باقي القوى السياسية ودفعها للتحالف معه لسدّ الباب أمام خطر “اليمين المتطرف” من جهة و”اليسار المتطرف” (المقصود بذلك حركة فرنسا الأبية La France insoumise) من جهة أخرى. وليس مستبعدا أن تؤول هذه المغامرة إلى كارثة في حالة فوز اليمين الفاشي الذي أصبح يرى نفسه أكثر من أيّ وقت مضى على قاب قوسين أو أدنى من تسلّم الحكم، مع ما يعنيه ذلك من خطر الإجهاز على العديد من المكاسب الديمقراطية والاجتماعية في فرنسا.
هذا السيناريو الكارثي يبدو مرجحا أكثر من غيره حسب استطلاعات الرأي خصوصا مع النجاح النسبي للمساعي الجارية التي يقوم بها “التجمع الوطني” للتحالف مع قوى يمينية ويمينية متطرفة أخرى.
بالمقابل، لم تجد إلى حد الآن دعوات ماكرون إلى تشكيل أغلبية رئاسية حوله تجاوبا يذكر سواء من طرف الجمهوريين (اليمين التقليدي) أو من طرف أحزاب “اليسار الجمهوري” التي توجه إليها. وهو ما يؤشر إلى هزيمة جديدة ستلحق به قد تكون أقسى من سابقاتها.
هل اليسار الفرنسي قادر على رفع التحدي وقطع الطريق أمام اليمين الفاشي؟
رغم فشل تجارب الوحدة السابقة بين مكونات اليسار الفرنسي، وآخرها التحالف الانتخابي في تشريعية 2022 تحت يافطة “الاتحاد الشعبي والايكولوجي والاجتماعي الجديد” (NUPES) الذي انفرط عقده تقريبا مباشرة بعد الانتخابات رغم النتائج الجيدة التي حققها، ورغم مشاركتها بقوائم منفردة الأحد الفارط في انتخابات البرلمان الأوروبي، إلا أنّ الفوز الساحق لليمين الفاشي والفرضية الجدية لوصوله للحكم في حالة فوزه بالأغلبية في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها كان بمثابة الزلزال الذي وضع أحزاب اليسار الفرنسي أمام مسؤولية تاريخية باعتبارها الوحيدة القادرة على هزمه. ورغم صعوبة المفاوضات التي انطلقت بين تلك الأحزاب منذ بداية الأسبوع سواء حول توزيع المقاعد أو بحكم تباين المواقف من قضايا هامة خصوصا على الساحة الأوروبية والدولية (الاتحاد الأوروبي، الحرب الروسية / الأوكرانية، القضية الفلسطينية…)، إلاّ أنها توصّلت في آخر المطاف إلى اتفاق نهائي لخوض الانتخابات القادمة في إطار تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”. إن ذلك يعتبر إنجازا هاما بالنظر للضغوطات الكبيرة التي مارستها القوى المقابلة (ماكرون، اليمين واليمين المتطرف) واللوبيات الإعلامية للحيلولة دون قيام هذا التحالف ويبقى الرهان الأهم هو كسب الانتخابات بعد الدور الثاني يوم الأحد 7 جويلية القادم.