الرئيسية / صوت العالم / ماذا لو انتصر اليسار في فرنسا ؟؟
ماذا لو انتصر اليسار في فرنسا ؟؟

ماذا لو انتصر اليسار في فرنسا ؟؟

بقلم جيلاني الهمامي

هذا ما يتمناه الكثير من الفرنسيين ومن غير الفرنسيين الذين لطالما عانوا من حكم اليمين. وقد تحولت هذه الأمنية إلى أمل يراودهم في ضوء التطورات السريعة التي شهدتها الساحة السياسية في فرنسا وخاصة منذ أن ظهرت للوجود “الجبهة الشعبية الجديدة”. وجاءت نتائج عمليات سبر الآراء الأخيرة لتعطي للجبهة نسبة نجاح مهمة لا تقل كثيرا عن نسبة نجاح الجبهة اليمينية المضادة. وكما في كل المنعرجات التاريخية الحاسمة والمعارك الكبرى – بما في ذلك المعارك الانتخابية – تنمو هذه الامنيات وتتضخم ويدنو الأمل وتتحسن نسبة الحظوظ بنسق غير معهود لا يحده هذه المرة إلا يوم 30 جوان الجاري تاريخ الاقتراع العام. ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان.

انتخابات سابقة لأوانها هدية لمن؟

بعد الهزيمة المدوّية التي مني بها ماكرون وحزبه renaissance لصالح غريمه القديم/ الجديد الحزب اليميني المتطرف المعروف “التجمع الوطني” حزب مارين لوبان الذي أصبح القوة السياسية الأولى في البلاد، سارع الرئيس الفرنسي إلى الإعلان عن حل “الجمعية الوطنية” وبالتالي الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. ولم تمرّ هذه الحركة دون أن تثير استغراب البعض وتفتح المجال لجدل واسع في الأوساط السياسية الفرنسية وحتى خارج فرنسا.

البعض يرى أن هذا القرار كان جاهزا وتم طبخه طي الكتمان في قصر “الإليزيه” من مدة بناء على توقعات بخصوص نتائج انتخابات 9 جوان الماضي. في هذا الصدد كشف صحافيون من جريدة “لوموند” le monde النقاب عن المشاورات التي تمت لاتخاذ هذا القرار والشخصيات الضالعة فيه (1). البعض الآخر اعتبر أن ماكرون قام بمجازفة، ثقة منه في قدرته على الفوز في مثل هذه المناورات وقلب الأوضاع لصالحه مثلما حصل في السابق مرتين على التوالي في الانتخابات الرئاسية وأسوة بما حصل في تاريخ فرنسا. ونذكر هنا ببعض المرات التي كلما أعلن فيها الرئيس عن حل البرلمان إلا وكسب الانتخابات التشريعية وعزز أغلبيته البرلمانية ليحكم في شيء من الاريحية. نذكر من ذلك قرار شارل دي غول سنة 1962 وسنة 1968 بحل البرلمان وفوزه بالانتخابات التشريعية. كما نُذكّر بقرار فرنسوا ميتران حل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها والفوز فيها سنتي 1981 و1988. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول إن الرجل أعد خطته بشكل مبكر اعتقادا منه أن الأمور ستسير لصالحه إذا لم يحصل طارئ في الاثناء.

لكن ما كل مرّة تسلم الجرّة في رأي البعض الآخر الذي اعتبر أن قراره كان قرارا انتحاريا ومخاطرة كبيرة ستكلفه ما لم يكن له في الحسبان علاوة على أن هذا القرار هو بمثابة تقديم هدية مجانية لليمين المتطرّف. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى التوقّعات التي تكشف عنها عمليات سبر الآراء الصادرة هذه الأيام والتي تذهب إلى حصر الصراع بين اليمين المتطرف ممثلا في حزب لوبان وبعض حلفائه (حزب الجمهوريين وبعض القيادات في حزب “الاسترداد” la Reconquête بزعامة العنصري إيريك زمور) من جهة والتحالف الجديد، المفاجئة التي لا أحد كان ينتظر حصولها بمثل هذه السرعة وهي “الجبهة الشعبية الجديدة” بقيادة حزب “فرنسا الأبيّة”.

أمام الفرنسيين أن يختاروا بين وبين

هكذا يبدو المشهد فعلا، ينحصر فيه الصراع بين اليمين المتطرف وجبهة اليسار. وليس في الامر من غرابة فطبيعة المعركة تقابل بالضرورة قوى اليمين ممثل الطغم الرأسمالية والاحتكارات وأباطرة السمسرة والاستغلال والقهر باليسار ممثل قوى العمل وسائر الكادحين وحتى الفئات الوسطى وفي كلمة، الجماهير الشعبية. واقع الحال في فرنسا اليوم أعاد وضع المعركة نسبيا في نصابها وأزاح جانبا المفارقة اللاتاريخية التي كان الصراع يجري بمقتضاها بين اليمين واليمين.

فالمعركة الانتخابية في فرنسا وهي أول مواجهة سياسية من هذا الحجم تجري في عنوانها العام بين اليمين المحافظ والشوفيني والمتطرف الغارق في الرجعية من جهة و”الجبهة الشعبية الجديدة” ذات التوجه اليساري من جهة ثانية. وبعبارة أخرى تجري المواجهة بين برنامج “التجمع الوطني” اليميني وبين البرنامج النقيض الذي أعلنت عنه “الجبهة الشعبية الجديدة”.
ورغم أن اليمين المتطرف لم يكشف بعد عن تفاصيل برنامجه الانتخابي واستمر في اللعب على عامل الغموض والإيحاء بإمكانية التنازل عن بعض مواقفه بما في ذلك “المبادئ الصلبة في المسائل الجوهرية”، وينبغي انتظار يوم الاثنين 24 جوان جاري للاطلاع على تفاصيله، رغم كل ذلك فإن الإجراءات التي أعلن عنها رئيسه (المرشح لرئاسة الحكومة في صورة فوزه بالانتخابات) جوردان بارديلا Jordan Bardella تصبٌّ في صالح أصحاب رأس المال وتسعى إلى معالجة أزمة البرجوازية الكبيرة الفرنسية والاحتكارات المرتبطة بها. من هذه الإجراءات إعفاء مساهمات أرباب العمل la part patronale بنسبة تصل إلى 10 % على أن تتحمل الدولة الفارق الناجم عن انخفاض الإيرادات وخوصصة مؤسسات البث السمعي والبصري العمومية وتحويل الضريبة على الثروة العقارية إلى ضريبة على الثروة المالية. ومازال من غير الواضح ما سيكون موقفه من برنامج إصلاح التقاعد. وعلى العكس من اعتزامه التخفيض في نسبة الضريبة على القيمة المضافة إلى 5.5 % بالنسبة للوقود والكهرباء والغاز فإنه لم ينبس ببنت شفة بالنسبة إلى نفس الاجراء في شأن مواد الاستهلاك الضرورية. وبطبيعة الحال لا يمكن أن ننسى ترسانة الإجراءات العنصرية المعروفة التي لوّح باتخاذها من قبل مثل إلغاء حق الولادة (droit du sol) وحصر حق التمتع بالمنح العائلية والمساكن الاجتماعية في الفرنسيين الأصليين فقط ومنع الوظائف في الإدارات والمؤسسات العامة على الأشخاص حاملي جنسية أخرى غير الجنسية الفرنسية إلى جانب سلسلة من الإجراءات التي تتعلق بالمدرسة واللباس في الوسط المدرسي وسلسلة أخرى تتعلق بالموقف من الاتحاد الأوروبي وبدائله في هذا الشأن والتي تتجه كلها نحو الانفصال والعودة إلى التقوقع “القومي” وتشديد الأمن والحماية حول الحدود “الوطنية” والحد من حرية التنقل بالنسبة للبشر الخ…

هذه الإجراءات التي يحاول بارديلا في كثير من الأحيان التهرب من الدفاع عنها بشكل صريح بل يذهب أحيانا إلى الإيحاء بإعادة النظر فيها، تبقى وستبقى جوهر برنامج “التجمع” العنصري المتطرف الذي وكما قال فيليب أوليفيي Philippe Olivier المستشار الخاص لدى مارين لوبان “لم نتخل عن أي شيء”(on a renoncé à rien).

في المقابل من ذلك تتقدم “الجبهة الشعبية الجديدة” والتي تجمع أهم مكونات “اليسار” التقليدي الفرنسي (اليسار الإصلاحي) وهي الحزب الاشتراكي وحركة فرنسا الابية والخضر والحزب الشيوعي الفرنسي، ببرنامج على طرفي نقيض مما تم استعراضه أعلاه. ويتضمن هذا البرنامج حزم من الإجراءات موزعة على آجال مختلفة. ففي صورة نجاحها فإنها تعتزم اتخاذ سلسلة من الإجراءات في بحر 15 يوما الأولى من حكمها وسلسلة أخرى في الـ 100 يوم وأخرى في السنوات الأولى من حكمها تحت عنوان “التغييرات” المزمع القيام بها في فرنسا.

ويمكن تلخيص هذا البرنامج الذي يُنصح بالاطلاع عليه بكامل تفاصيله، (2) في ما جاء في أول فقرة وردت بعد التوطئة “لحكومة الجبهة الشعبية الجديدة بمجرد تنصيبها أولوية واحدة هي: الاستجابة للأوضاع المستعجلة التي أضرت بحياة الشعب الفرنسي وثقته. سنضع حدا للوحشية وسوء المعاملة في سنوات ماكرون. سنعتمد على الفور 20 عملا للقطيعة مع الماضي وللاستجابة لحالة الطوارئ الاجتماعية، وتحدي المناخ، وإصلاح الخدمات العامة، ومسار التهدئة في فرنسا وحول العالم. بحيث تتغير الحياة ابتداء من صيف عام 2024”.

ضمن هذه الرؤية وهذا البرنامج وردت تفاصيل الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية الملحّة مثل الترفيع في الأجر الأدنى الصّافي إلى 1600 أورو والترفيع بنسبة 10 % في بقية أصناف الأجور وتجميد الأسعار وإلغاء الإجراءات التي اتخذها ماكرون فيما يتعلق بإصلاح نظام التقاعد وإجراءات مماثلة تهم الفلاحين وتوزيع المياه على الأنشطة الاقتصادية المختلفة وأخرى تتعلق بإصلاح الخدمات العمومية والسكن ودفع عملية خلق مواطن الشغل والشروع في استخدام “شرطة الجوار” في إطار مقاربة عامة للتهدئة في فرنسا.

هذه نبذة موجزة من البرامج المقدمة من الطرفين الأبرز في السباق الانتخابي يوم الأحد القادم. وقد أعطتنا استطلاعات الراي في فرنسا فكرة عن أثر هذه البرامج في الرأي العام الفرنسي حيث تشير مختلف مؤسسات سبر الآراء إلى تقارب حظوظ الطرفين أي أقصى اليمين بحوالي 35 % والجبهة الشعبية بحوالي 30 % فيما يتراجع ماكرون إلى أقل من 20 %. وعلينا أن نتابع تطورات تفاعل النّاخب الفرنسي حتى ساعة الإعلان عن نتائج اقتراع يوم الاحد القادم. ويستشف حتى الان من منحى التفاعل تحسن صدى برنامج اليسار ولو بشكل طفيف وتراجع أصداء برامج معسكر ماكرون وأطراف أخرى من أقصى اليمين (حزب أريك زمور). وتظل الأماني والآمال في انتعاش غير منقطع عسى أن تمنحنا فرنسا بؤرة ضوء أخرى في مشهد أوروبي قاتم يبعث على الخوف.

ماذا لو انتصر اليسار إذن

قضت فرنسا سنوات طويلة تحت ربقة اليمين مجبرة على الاختيار بين الطاعون والكوليرا. فإما الشعبوي اليميني الرجعي ماكرون وإما أقصى اليمين الفاشستي ومارين لوبان. واليوم هي أمام حالة من نوع آخر يمكنها الاختيار بين السيء والايجابي. فكما جاء في توطئة برنامج “الجبهة الشعبية الجديدة” فإن الفرنسيات والفرنسيين باختيارهم للجبهة “سيكتبون صفحة جديدة من تاريخ فرنسا”.

نعم إن تاريخ فرنسا بشكل عام فيه ما فيه من المآسي والظلم والاستعمار وكل صنوف القهر ولكنها تبقى مع ذلك من أكثر البلدان، إن لم تكن حقا أكثر بلد، استنهض في كل مرة العالم وأشار عليه بالإشارة الدّالة إلى طريق الصواب. ففرنسا مهد الثورة البرجوازية في نسختها الأكثر تقدمية وثورية هي بلد عمال باريس الذين “انقضوا على السماء” كما قال كارل ماركس ورسموا طريق خلاص المجتمع الإنساني المعاصر وبلوروا نموذج دولة العصور القادمة، تبدو اليوم كأنما يرشحها التاريخ مرة أخرى لتشير على أوروبا وبقية شعوب العالم الإشارة الدالة إلى طريق الصواب، طريق صد طاعون اليمين بكل مشتقاته.

هوامش:

1- أنظر جريدة لوموند بتاريخ 15 جوان 2024 على الرابط التالي

Comment la décision de dissoudre l’Assemblée nationale a-t-elle été prise ? Comprendre en trois minutes (lemonde.fr)

2- البرنامج الكامل “للجبهة الشعبية الجديدة” في فرنسا، أنظر الرابط التالي:

Le programme du Nouveau Front Populaire – La France insoumise

إلى الأعلى
×