بقلم وليد بالضيافي
أمضى نظام قيس سعيد يوم 16 جويلة 2023 مذكرة تفاهم تحت عنوان “شراكة استراتيجية وشاملة” مع الاتحاد الأوروبي كانت المسألة الطاقية من بين أهم محاورها. جاء هذا الاتفاق في سياق حملة عنصرية ضد المهاجرين بادر بها قيس سعيد وأتباعه، وهو ما جعل مسألة تصدير الحدود الجنوبية لأوروبا تطغى على النقاشات بينما غيّبت المسألة الطاقية رغم أهميتها. عادت اليوم النقاشات حول هذه المسألة إثر توقيع النظام على مذكرتي تفاهم مع شركات أجنبية لإنتاج الهيرودرجن “الأخضر” (مذكرة مع مجمع طوطال وشركة فاربوت النمساوية واتفاقية مع شركة أكوا السعودية). هذه الاتفاقيات تتنزّل في إطار الإستراتيجية الوطنية لتطوير الهيرودرجن “الأخضر” ومشتقاته التي أعدّتها حكومة قيس سعيد أو بالأحرى أعدّها مكتب دراسات ألماني وآخر تونسي بتمويل من وكالة التعاون الألمانية لفائدة الدولة التونسية.
كانت جريدة “صوت الشعب” أصدرت مقالاً أوّلاً في الموضوع ونواصل في هذا المقال التطرّق إلى مخاطر هذه السياسات.
1. مواصلة للاستعمار الاقتصادي
تطمح تونس حسب وثيقة الاستراتيجية إلى إنتاج 8300 مليون طن من الهيدروجين “الأخضر” في حدود سنة 2050، منها 6000 مليون طن معدة للتصدير عبر الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي. أمّا البقية، أي 2300 طن، فهي معدّة لإنتاج مشتقات الهيدروجين (أمونياك وميتانول…) مخصصة للسوق الداخلية والتصدير، أي أن أكثر من 70% من الإنتاج سيكون مخصّصا حصراً للاتحاد الأوروبي. إنّ هذا الخيار محفوف بالمخاطر باعتباره يجعل من أوروبا الحريف الشبه الحصري. وهو ما من شأنه أن يعمّق تبعيتنا الاقتصادية للسوق الأوروبية. هذه التبعية كانت مثلاً سببا رئيسيا في تصدير الأزمة الاقتصادية لتونس سنة 2008. كما يضعنا هذا الخيار تحت رحمة التقلبات السياسية الأوروبية التي لم تحسم بعد خياراتها الطاقية. ففي فرنسا مثلاً مازال الجدل متواصلا بين مؤيّدي استعمال الطاقة النووية (الحزب الشيوعي مثلاً) وبين من يؤيّد التوجه إلى استعمال الطاقات البديلة (حزب الخضر). كما أن الانتخابات الأوروبية الأخيرة تميّزت بزيادة عدد النواب المنتمين إلى اليمين المتطرف، وهي حركة معروفة بتشكيكها في التحوّل المناخي ودفاعها عن استعمال الطاقات الأحفورية (فحم حجري، بترول). فما العمل إذا فقدت تونس حريفها “الاستراتيجي”؟
تقدّر الفرضيات المطروحة في وثيقة الإستراتيجية قيمة الاستثمارات بـ120 مليون يورو، جزء منها بتمويلات خاصة، وتنصح بالتوجه إلى البنوك الأوروبية لاقتراض البقية (بنوك “التنمية” وصناديق الاستثمار)، هذه المؤسسات هي الأذرع المالية للاتحاد الأوروبي، وضعت لخدمة سياساته والحفاظ على مصالحه الاستعمارية. وهو ما يجعل من تونس في مرتبة المناول (sous-traitant) لأوروبا وليس شريكاً استراتيجيا كما توحي به مذكرة جويلية 2023.
2. أيّ مردودية اقتصادية؟
حسب هذه الإستراتيجية فإن عملية تصدير الهيدروجين إلى أوروبا ستمكن تونس من تقليص عجزها التجاري بـ8.6 مليار يورو في حدود 2050 دون شرح الفرضيات التي تؤدي لهذه النتيجة. فلم تحدد الوثيقة نسبة الإتاوة التي ستتحصل عليها الدولة التونسية مقابل استغلال مواردها وأرضها لإنتاج ونقل الهيدروجين. من ناحية أخرى، تمهّد الوثيقة لوضع إطارٍ تشريعي “يحفز على الاستثمار”، عبر تخفيض الضرائب (تقليص مداخيل الدولة) وتسهيلات استغلال الأراضي والسواحل معتمدة المغرب ومصر كأمثلة (نظام ملكي ونظام عسكري، أنظمة منبطحة توزع الثروة فيها على مجموعة صغيرة من “المقرّبين”).
علاوة على هذا الإطار “المحفز”، فإن الحكومة التونسية أمضت اتفاقيتين/مذكرتي تفاهم مع شركتين أجنبيتين لدراسة تركيز وحدات إنتاج معدة لتصدير الهيدورجين لأوروبا. فالقانون التونسي يمنح فعليا عدة امتيازات للشركات المصدرة كلياً كالتخفيضات في الضريبة على الأرباح، إعفاءات ديوانية مع إمكانية إخراج المرابيح بالعملة الصعبة دون الاحتياج إلى موافقة مسبقة من البنك المركزي لتحويل الأموال عكس بقية الشركات… وفي هذا الصدد كانت شركة/مجمع طوطال الفرنسية أولى الموقعين على مذكرة تفاهم مع الحكومة التونسية، رغم تشكيك مديرها في جدوى استعمال الهيدروجين كناقل/مصدر للطاقة (تصريحات باتريك بوياني مدير مجمع طوطال في الملتقى الاقتصادي العالمي بالرياض في أفريل 2024) وهي شركة متهرّبة ضريبيا في فرنسا وفي أوغندا حسب منظمة أوكسفام.
3. مخاطر بيئية بالجملة
يتبادر للبعض عند سماع أو قراءة هيدروجين أخضر أنه منتوج صديق للبيئة إلا أن هذه تسمية مغالطة. لفهم المخاطر البيئية يجب الرجوع لطريقة الإنتاج. مركب الهيدروجين هو عبارة عن ذرّتي هيدروجين متلاصقتين (H2)، نتحصّل على هذا المركب عبر تمرير تيار كهربائي في الماء (H2O) حتى تنفصل جزئيات الماء إلى الهيدروجين والأكسجين. تحتاج العملية إلى استعمال بعض المواد الكيميائية حسب التكنولوجيا المستعملة، وتسمى العملية التحليل الكهربائي (électrolyse). إذن فعملية إنتاج الهيدروجين في حدّ ذاتها تحتاج إلى الكهرباء في عدة مراحل. لهذا يعتبر الهيدروجين ناقلا وأداة تخزين للطاقة الكهربائية وليس مصدرا لها. لإنتاج الهيدروجين “الأخضر” تستعمل طاقة كهربائية متأتية من مصادر “متجددة” كالريح عبر التوربينات (éoliennes) أو الشمس عبر الألواح الشمسية وهو ما يعني وجوبا تخصيص مساحات شاسعة لهذه المنشآت إمّا في البحر أو في الأرض، هذه المساحات كان بالإمكان استغلالها للفلاحة أو الصيد مثلا. على صعيد آخر، تستوجب عملية التحليل كميات هامة من المياه العذبة في حين تعتبر تونس من الدول التي تعاني من الضغط المائي. هذا الضغط المائي هو نتيجة حتمية للانحباس الحراري الذي تعدّ أوروبا أهمّ المتسببين فيه. تدعو الوثيقة إلى تحلية مياه البحر وتتوقع الدراسة الحاجة إلى ما بين 165 و248 مليون متر مكعب من المياه المحلات. هذه المياه كان بالإمكان استغلالها للشراب أو في الفلاحة. كما أن هذه العملية محفوفة بالمخاطر البيئية حيث تولد محلولا عالي الملوحة وعدة نفايات كيميائية يجب التأكد من حسن معالجتها كما أشار لذلك بيان قسم العدالة البيئية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. هذا إضافة إلى النفايات الكيميائية والصلبة الصادرة عن عملية التحليل الكهربائي التي تتطلب أيضا عمليات معالجة صارمة نظرا لخطورتها. زد على ذلك أن عملية تخزين ونقل الهيدروجين في حد ذاته عملية معقدة نظرا لصغر حجمه وسرعة التهابه وانفجاره.
هذه المخاطر تحتّم على الدولة التونسية إصدار إطار تشريعي صارم لتأطير إنتاج الهيدروجين قبل بدء عمليات الإنتاج. لكن الوثيقة الصادرة باسم وزارة الطاقة والمناجم بتاريخ ماي 2024 “تدعو” إلى إرساء إطار قانوني يحدد إجراءات استغلال ملك الدولة البحري وكيفية التعامل مع مياه البحر وإجراءات السلامة لتخزين ونقل الهيدروجين… أي أن حكومة سعيد قامت بإمضاء مذكرات تفاهم مع شركات أجنبية في غياب إطار تشريعي يحمي حقوق الدولة التونسية. والسؤال هنا إلى أي مدى ستضغط هذه الشركات على النظام لسن قوانين متسامحة لفائدتها؟ خصوصا وأن العديد الشركات العاملة في مجال الطاقة محل تتبعات نظرا للضرر البيئي الذي أحدثتة مثلما هو الحال بالنسبة لمجمع طوطال الشريك الرئيسي في مشروع “H2 Notos” (محل مذكرة التفاهم الأولى) والملاحق قضائيا على خلفية مجزرة بيئية قام بها في منطقة حضرموت في اليمن أدت إلى تلويث المائدة المائية والأراضي وإلى ارتفاع عدد حالات السرطان والوفايات نتيجة التسمم بمواد كيميائية لم تعالجها الشركة عند استخراج البترول من المنطقة لتقليص المصاريف والترفيع في الأرباح.
4. السيادة الشعبية على الموارد الطاقية
ختاما، إن الاستراتيجية الوطنية لتطوير الهيدروجين “الأخضر” هي عملية إنتاج موجهة أساسا للسوق الأوروبية بقروض أوروبية تتحمل تونس مخاطرها البيئية والاقتصادية، عكس ما جاء في مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي حيث ذكرت الوثيقة “أن الطرفين (تونس والاتحاد الأوروبي) سيدعمان التعاون لتحقيق التزامات تونس في إطار اتفاق باريس” فتونس هي من تساهم في تحقيق أهداف أوروبا البيئية عبر “تأمين تموين أوروبا بطاقة منخفضة الكربون” (حسب نفس المذكرة). لتمرير هذه الإستراتيجية، تحاول حكومة قيس سعيد إضفاء صبغة تقنية بحتة على المسألة الطاقية لتجعل منها قضية نخبوية تناقش أساسا في أروقة الوزارات عبر تقارير تنتجها مكاتب الدراسات، في غياب إدارة ديمقراطية للشأن العام. إن هذا التمشي أنتج سياسة طاقية تعمّق من وقع الاستعمار الاقتصادي الأوروبي في تونس.
لكن المسألة الطاقية هي مجموعة من الخيارات السياسية، في الأنظمة الديمقراطية تشرح هذه السياسات وتناقش علنا في البرامج الانتخابية ليستفتى عليها الشعب ويستشار السكان المحليون حول المشاريع التي تقام على أراضيهم. هكذا يتمكن المواطنون من تبيّن مزايا ومساوئ هذه المشاريع لاتخاذ قرار واعي ومستنير. ولأن مسألة الطاقة مسألة سيادية (فهي المحرك الأساسي للإنتاج)، ينبغي على الدولة (المنبثقة عن خيار شعبي) أن تتحمّل مسؤولية إدارتها عبر تأميم القطاع لتأمينه وحسن استغلاله حتى يبسط الشعب سيادته كاملة على موارده، وهو التمشي الذي اختاره حزب العمال في برنامجه السياسي “الديمقراطية الشعبية”.