بقلم عمار عمروسية
يشارف العدوان الصهيوني الهمجي على “غزّة” دخول شهره التاسع مسجّلا أطول عدوان للاحتلال بالمنطقة.
فآلة التقتيل الإجراميّة بدعم غربي سخيّ ومشاركة أمريكية نشيطة تواصل حرب الإبادة الجماعية الممنهجة ضدّ البشر وجميع مقوّمات الحياة في القطاع المنكوب بإقرار جلّ المتابعين ليوميات أشنع المجازر ضدّ المدنيّين العزّل وعلى الأخصّ الأطفال والنساء.
فجيش الاحتلال سخّر كلّ إمكاناته العسكرية والبشريّة بطريقة غير مسبوقة واندفع تحت قيادة حكومة يمينيّة متطرّفة لتحقيق أهدافٍ تمّ ضبطها والإفصاح عنها بعد نقاشها وموافقة البيت الأبيض والكثير من الدول الغربية.
فالكلّ كان يلهج بسحق “حماس” والقضاء عليها عسكريا وسلطويّا وتحرير الأسرى الصّهاينة وتأمين الكيان نهائيا من مخاطر أيّ نوع من المقاومة على هذه الجبهة.
اندفع سلاح الجوّ مزهوّا بتفوّقه للتّدمير العشوائي والتّقتيل الواسع لتعبيد الطريق أمام الاجتياح البرّي الذي اعتقد الكثيرون أنّه سيكون أقرب إلى فسحة بالنسبة إلى أقوى جيش بالمنطقة وغيرها من مزاعم “الجيش الذّي لا يقهر” والقادر دوما على حسم نزالاته في السّاحات العربية بطريقة خاطفة.
جرت رياح غزّة، وتحديدا مقاومتها الباسلة وصمود شعبها العظيم، بما عاكس كلّ تلك المزاعم وأسقط مجمل السرديّة الصهيو/أمريكية، وفضح على نطاق واسع الطبيعة النازية المتوحّشة للكيان وشركائه الذين وضعوا أنفسهم في مرتبة كبار المجرمين المارقين عن كلّ القيم الإنسانية الأساسية وجميع القوانين والاتفاقات الكونيّة المتعلّقة بالنّزاعات والحروب.
فوقائع العدوان الأطول في تاريخ الصراع العربي /الصهيوني قوّضت أسس العقيدة العسكرية للكيان الغاصب وأدخلت جيش الاحتلال إلى نفق خيباتٍ متلاحقة حصيلتها النهائية الفشل الذّريع في تحقيق تلك الأهداف المعلنة باعتراف الإعلام الصهيوني وكبار جنرالاته وخبرائه العسكريين.
فقدرات المقاومة العسكرية، رغم الحصار المطبق، مازالت فاعلة وحضورها السياسي والمعنوي تعاظم ليس فقط في غزّة وإنّما على امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتجاوزها إلى مجمل الساحات العالمية بما فيها شوارع أمريكا ودول الغرب.
فاليد الطولى في الميدان لسلاح المقاومة وسواعد رجالها القويّة والانكسارات المتعاقبة “للجيش الذي لا يقهر” الذي عجز عن تحرير أسراه وفكّ ألغاز الأنفاق والوصول إلى قيادات المقاومة.
ربحت المقاومة معركة الوعي ووضعت القضية الفلسطينية بأبعادها الحقيقية في قلوب شعوب العالم وحركاته المناهضة للصهيونية والإمبريالية وعدّلت جرأة المقاومة وحسن إدارتها للمعارك الميدانية موازين القوى وحوّلتها تدريجيّا، وإن بكلفةٍ بشرية كبيرة، لصالحها.
فمجريات وقائع الميدان من “بيت لاهيا” إلى مدينة “غزة” و”خانيونس” حتّى “رفح ” كانت بمثابة حلقات متواصلة من إنجازاتٍ جديدةٍ لتثبيت انتصار المقاومة منذ 7 أكتوبر 2023 وعمليّة “طوفان الأقصى” البطولية.
بالتوازي مع منجزات المقاومة يغرق الكيان في خيباته التّي طالت الجانب الأمني والاستخباراتي والعسكري /الميداني وشملت الجوانب السياسية والإيديولوجية، الخ…
تتضاعف معضلات الكيان الذي تعمّقت عزلته على السّاحتين الإقليمية والدولية وتتزايد مصاعبه المالية والاقتصادية تحت ضربات المقاومة الفلسطينية ومحور الإسناد النشيط بجنوب لبنان واليمن وتتفاقم انقساماته المجتمعيّة وتصل حدودا تُنذر بمخاطر الحرب الأهلية مثلما قال نتانياهو أكثر من مرّة.
فالكلّ ضدّ الكلّ مثلما ورد بصحيفة “يديعوت آحرنوت” في افتتاحيتها مؤخّرا.
فالانقسام يطال النسيج الاجتماعي والفُرقة كبيرة بين القيادة السياسية وأركان الجيش زيادة على تشظّي المشهد السياسي.
فهم ينقسمون حول أولويّات هذه الحرب الظالمة وطرق إدارتها ويكاد يجمعهم الإقرار أوّلا بعبثيّة هذ العدوان واستمراره، وثانيا بهزيمة الجيش وانكساره، وثالثا بفشل الخيار العسكري في تحرير الأسرى وتحقيق باقي الأهداف.
فـ”حماس” والمقاومة، باعتراف قادة البيت الأبيض، عصيّة عن الاجتثاث وحتّى الهزيمة وهي كذلك في نظر “جوزيب بوريل” الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي والمسؤول الأول عن السياسات الخارجية الذي قال منذ أشهر: “حماس فكرةٌ، ومن الوهم القضاء عليها”.
أكثر من ذلك؛ كبار جنرالات الجيش الصهيوني المتقاعدين يحذّرون منذ أشهرٍ من غياب استراتيجية واقعية لهذه الحرب ويدقّون أجراس الخطر من تآكل منجزات الجيش التكتيكية من الإمعان في مواصلة العدوان.
وحدها حكومة اليمين النّازي كانت تدفع نحو الإمعان في التقتيل والتّدمير، ووحده كان “نتانياهو” بدفعٍ من وزيري الأمن والمالية “بني غفير، وسموتريتش” يدفع فيالق عساكره المتهالكة للاستمرار في حرب استنزاف مكلفة بشريّا وماديّا بعيدة كلّ البعد عن مزاعم النصر المطلق.
يدير “نتانياهو” عدوانه على “غزّة” ويهدّد بتوسيع الحرب على “حزب الله” ولبنان بعقليّة انتقامية متهوّرة ولحسابات سياسية خاصة به ومن أجل بقاء حكومته.
فالأخيرة – أي الحكومة – وفق زعيم المعارضة الصهيونية “لابيد” “حكومة مجانين جهلة وكذّابين”، ورئيسها وفق رئيس “الشاباك” السابق “أسوأ رئيس وزراء وأكثرهم فشلا في تاريخ إسرائيل…”.
يلاحق “نتانياهو” وهم النّصر المطلق وتحرير الأسرى من خلال الأعمال العسكرية بالرّغم من تعالي الأصوات حوله وحتّى بين البعض من وزرائه الذين قفزوا من القارب السائر نحو الغرق وأعلن بعضهم على رؤوس الملأ بأنّ حكومتهم تقود “إسرائيل” نحو الهاوية والهزيمة الاستراتيجية.
قفز “بني غانس” من حكومة الفشل وأعلن “فشل الحلّ العسكري وحمّل رئيس الحكومة مسؤولية إفشال المفاوضات ولحقه “إيزانكوت” صارخا:” هذه حرب عبثية، خاسرة ولا خيار أمامنا سوى المفاوضات”، وهي تقريبا ذات المعاني التّي ردّدها “هاليفي” الناطق الرسمي للجيش الذي قال: “من يزعم تحرير أسرانا بالعمل الحربي هو واهم” وأضاف: “من يقول عكس هذا هو ذرّ للرّماد في العيون”.
بهذه الانقسامات الكبيرة وبهذه الرّوح الانهزامية التّي تمكّنت من أركان الكيان وجيشه يهدّد “نتانياهو” والبعض من أركان جيشه باجتياح “لبنان” وتدميرها، وهو أمر يثير السخرية؛ فقدرات “حزب الله” العسكرية هائلة، وخبراته الميدانية كبيرة، إضافة إلى المجال الجغرافي المتّسع قياسا بـ”غزة”.
فما لا يرقى إليه الشّكّ أنّ فتح مثل هذه الجبهة لن يكون بالأمر الهيّن على الكيان وعلى حماتها، والأهم من ذلك أنّ مثل هذه الخطوة لن تقود إلاّ إلى حرب إقليمية واسعة خسائرها الأثقل ستكون على المصالح والقوّات الأمريكية بالمنطقة وعلى الكيان العالق في غزّة.