الرئيسية / صوت العالم / الفقر والسخط والوعي الطبقي
الفقر والسخط والوعي الطبقي

الفقر والسخط والوعي الطبقي

بقلم مرتضى العبيدي

تقديم

نشرت صحيفة سنتيلا (الشرارة)، اللسان المركزي لمنظمة “الأرضية الشيوعية بإيطاليا” في عددها 146، الصادر في شهر جوان 2024، مقالا حول تزايد الفقر والسخط لدى الطبقات الكادحة ليس في إيطاليا فحسب بل في كافة الفضاء الأوروبي، يزيل الوهم على حقيقة هذه “الجنات الموعودة” التي تستميت (بل ويموتون فعلا) أعداد غفيرة ومتزايدة من منكوبي بلدان الجنوب في الوصول إلى أراضيها، مقال رأينا من المفيد وضعه بين أيدي قرّاء “صوت الشعب“.

قامت معاهد الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي بتطوير مؤشر “خطر الفقر أو الاستبعاد الاجتماعي – أوروبا 2030” لقياس النسبة المئوية للأشخاص الذين يجدون أنفسهم في واحدة على الأقل من الحالات التالية:
العيش في أسرة يقل دخلها عن عتبة خطر الفقر؛
العيش في أسرة في ظروف حرمان مادي واجتماعي خطير، أو في أسر لا تستطيع تغطية النفقات المرتبطة بالفواتير، ونفقات التدفئة، ونظام غذائي متوازن، وشراء الأجهزة المنزلية الضرورية؛
العيش في أسر ذات حضور منخفض للغاية في سوق العمل.
وبحسب هذا المؤشر، ففي عام 2023، فإن عدد السكان في إيطاليا المعرضين لخطر الفقر أو الاستبعاد الاجتماعي، أي عدد الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في واحدة على الأقل من الظروف السابقة الذكر، يساوي 22.8% (حوالي 13 مليون 391 ألف شخص). كما تكشف الإحصائيات عن زيادة في عدد السكان الذين يعيشون في ظروف الحرمان الشديد، على الرغم مما يسمى بـ”تدابير دعم الأسرة” و”تدابير التدخلات الظرفية والمستعجلة” التي أطلقتها الحكومة.
وتشير نفس التقديرات الإحصائية لعام 2022 إلى أن نمو دخل الأسر المقيمة في إيطاليا بالقيمة الاسمية (+6.5%) لم يكن كافيا للتعويض عن الارتفاع الحاد في التضخم. وبذلك انخفض دخل أفراد الأسرة بالقيمة الحقيقية بنسبة 2.1%.

هل تختصّ إيطاليا بهذه الوضعية؟

ويقدر المسح الإحصائي الأوروبي لعام 2022 أن نحو 95.3 مليون شخص معرضون لخطر الفقر أو الاستبعاد الاجتماعي، أي 21.6% من إجمالي سكان الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد. وفي الاقتصادات الأوروبية الكبرى، مثل فرنسا وألمانيا، تعادل نسبة السكان الفقراء، وفقا لهذه الإحصائية، 21% و21.1% على التوالي من الإجمالي.
ومع كل تحديث للإحصائيات، هناك زيادة في معدلات الفقر، على الرغم من كل “الخطب البلاغية” الذي تطلقها المفوضية الأوروبية بشأن مكافحة أسباب الفقر.
وهكذا تتحول الأزمات الدورية والقطاعية التي تتطور في إطار الأزمة العامة للرأسمالية إلى مجرّد عمل ضخم لإعادة التوزيع في الموازنات: تخفيضات في القطاعين الاجتماعي والتعليمي، وتدمير النظام الصحي، وانخفاض الأجور الحقيقية، وانخفاض المعاشات الحقيقية مع إعفاءات ضريبية جديدة وإعانات ضخمة لرأس المال، بالإضافة إلى تضخم الإنفاق العسكري.
من الواضح أن الجماهير الكادحة تتعرّض لعملية تفقير ممنهج ومستمرّ. أذ أن الأزمات المتتالية مثلت في الحقيقة فرصة لرأس المال لزيادة استغلال الطبقة العاملة وتكثيف نهب الجماهير العاملة.

انعدام الثقة في مؤسسات الدولة البورجوازية

لذلك ليس من المستغرب أن تتضاءل بسرعة الثقة في النظام الاجتماعي والاقتصادي وفي الأحزاب السياسية التي تعبر عنه.
ولم يعد النظام السياسي المهيمن يتمتع بدعم واسع من الطبقة العاملة والجماهير الشعبية. إذ أنه أثبت عدم قدرته على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال، بل وحتى حقوقهم الديمقراطية الأساسية.
فبالإضافة إلى المخاوف الاقتصادية، يشعر السكان بشكل متزايد بنقص أو غياب العدالة الاجتماعية. لقد فقدت أبرز الشخصيات في الحياة السياسية والإعلامية أي صلة متبقية بالحياة اليومية للجماهير الشعبية، وهو ما يغذي عدم الثقة في الديمقراطية البرلمانية البرجوازية وفي مؤسساتها التي تصبح متاحة للقوى الرجعية والفاشية للتقرب أكثر من غيرها من الطبقات المفقرة.

وماذا عن المقاومة؟

إن التغيرات نحو الأسوأ في أوضاع الجماهير العاملة لها تأثير في مجالات مختلفة، من ذلك أن ردّة الفعل لا تأخذ إلى حد الآن أشكالا موحدة ولا تحصل بعد بصفة متزامنة. لذلك فإن المقاومة المرئية لا تتوافق بعد مع حجم الاستياء المتزايد والوعي بتعفن النظام الحالي.
ولمنع عملية التعبئة واستعادة الوعي الطبقي أو للحدّ منها واحتوائها، يستدعي رأس المال مساعديه من البيروقراطية النقابية. ففي هذا المناخ العام، يتدخل القادة النقابيون لمنع مشاركة الطبقات الدنيا والأقل أجرا من الجماهير العاملة المعرضة للتهديد المستمر بالبطالة والفقر. إن النضال ضد تسريح العمال، وزيادة الرواتب، والمفاوضة الجماعية، كثيرا ما تبقى حبرا على ورق ولا يُنجز منها شيئا على أرض الواقع. لكن هذا العمل التخريبي لن يُكتب له الاستمرار الى ما لا نهاية أمام تزايد السخط.
ومما يزيد الطين بلّة احتدام الصراعات بين الكتلتين الإمبرياليتين الكبيرتين اللتين تواجهان بعضهما البعض اليوم، الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي من جهة والإمبريالية الصينية والروسية من جهة أخرى، أصبحت أكثر وضوحا.
إذ يجب على العمال أن يدفعوا ثمن زيادة الإنفاق العسكري مع انخفاض الأجور وارتفاع التضخم وانخفاض الإنفاق الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، يتناقص إنتاج السلع الاستهلاكية المدنية في عدد من القطاعات الاقتصادية. ويواجه الإنتاج الضخم في هذه الفروع انخفاض القدرة الشرائية للمجتمع. وتتحوّل “المعجزات” الاقتصادية إلى مجرد ضروب من التفاخر. إذ أن كل واحدة من هذه المعجزات تخضع لقوانين السوق الرأسمالية العمياء.

ماذا يفعل الساسة؟

وينتاب الممثلين السياسيين للطبقات المهيمنة شعور متزايد بأن هيبة هذه الأخيرة ودرجة الثقة فيها تتضاءلان. فتحاول صرف انتباه العمال عن الأزمة الرأسمالية وعن أسباب الظواهر الاجتماعية السلبية. فتلجأ إلى وسائل الإعلام الجماهيرية، وخاصة منها شبكات التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها وتنفق عليها بسخاء، لتجعل منها أدوات لبث الكراهية وضروب العنف في كامل المجتمع.
مثال ذلك تسليطها الضوء على ما أطلقوا عليه تسمية “الاحتيال الاجتماعي” وجعله في مركز النقاش العام وتلبيس شبهة الغش إلى كل مستفيد من إعانات الدولة الضئيلة للغاية، والتي لم يكن اعتمادها سوى وسيلة لتحويل الاحتجاج الاجتماعي بشكل مؤقت، في حين يقوم الطفيليون الحقيقيون في المجتمع بتضخيم مؤشرات سوق الأوراق المالية للشركات لإخفاء الطبيعة المزمنة لانخفاض الإنتاج الصناعي، واكتناز الملايين التي تقدمها الدولة “لدعم نشاطهم”.
مثال آخر يأتي من مسألة اللجوء واللاجئين. فإذا كان فشل النظام، وزيادة الفقر، والتهديد بفقدان الوظائف، يشكل مصدر قلق لجماهير غفيرة، مما يدفعهم إلى المطالبة بالتغييرات، فإن مناخ عدم الثقة والشك في المؤسسات يتم توجيهه نحو “طالبي اللجوء”، فيُتهمون بالرغبة في “غزو” البلاد، ويتم استحضار كل النظريات العنصرية الصالحة للغرض، فيتم إلغاء حق اللجوء في الواقع في دول الاتحاد الأوروبي. وتعود ممارسة الشعار القديم للطبقة الحاكمة، “فرق تسد”، بكل أشكاله لضمان الاستغلال “السلمي” لأكبر عدد من العمال.
وليس من قبيل الصدفة أن الأداة المميزة للحكومة القائمة هي الديماغوجيا الاجتماعية بجميع أشكالها. وليس من قبيل الصدفة كذلك أن الأحزاب التي تفتخر بتمثيل المعارضة البرلمانية تستغل المواضيع ذاتها التي تطرحها الرجعية وتعيد إنتاجها في سياساتها الخاصة بالتعاون الطبقي. كل هذا بهدف تحويل انتباه الطبقة العاملة والجماهير الكادحة عن الكارثة الرأسمالية.

ما العمل إذن؟

وكما قلنا، فإن السخط والاستياء وحتى الغضب ضد هذا النظام وضد السياسة البرجوازية ككل، يتم التعبير عنه بالفعل في العديد من المؤسسات الصناعية وفي أماكن مختلفة من البلاد. لكن الأمر يتعلق بكيفية رفع هذه المشاعر إلى مستوى أكثر دقة ووضوح من الوعي الطبقي. ففي النضالات القادمة والتي ستتصاعد، سيكون من المهم أن نوضّح أكثر أن هذه ليست مجرد ظواهر معزولة، لا علاقة لها ببعضها البعض وفي تتابع عشوائي، بل إنا جميعها نتاج النظام الاجتماعي. فيصبح من الضروري دحض فكرة أنه من الممكن اتباع سياسة “معقولة” في ظل الرأسمالية. يجب علينا تطوير النضال من أجل مطالب ملموسة وفي نفس الوقت تبديد الأوهام حول هذا النظام.
قبل كل شيء، يجب علينا أن نعيد بديل الاشتراكية إلى جدول الأعمال، أي النضال من أجل وضع حد للرأسمالية التي يجب استبدالها حتما ببنية جديدة ومتفوقة، هي الاشتراكية.

صحيفة سنتيلا (الشرارة)،

عدد 146، جوان 2024

إلى الأعلى
×