الرئيسية / الافتتاحية / مهزلة انتخابية أخرى لتشريع الانقلاب وتركيز الاستبداد
مهزلة انتخابية أخرى لتشريع الانقلاب وتركيز الاستبداد

مهزلة انتخابية أخرى لتشريع الانقلاب وتركيز الاستبداد

أصدر قيس سعيّد يوم الثلاثاء 2 جويلية 2024 الأمر المتعلق بدعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية التي حدّد تاريخها ليوم 6 أكتوبر القادم. وبهذه الصورة تنتهي أشهر من التخمينات حول ما إذا كان سعيّد ينوي حقّا إجراء هذه الانتخابات وإذا لم تكن تساوره فكرة إلغائها أو على الأقل تأجيلها. لقد امتنع قيس سعيّد طوال تلك الأشهر عن تحديد موعد الانتخابات كما أنّه منع “هيئته” الانتخابية من القيام بذلك رغم أن المسألة من صلاحيّاتها. ولا نعتقد أن هذا السلوك “بريء” فنحن لا نستبعد أن تكون المدة الفارطة استهلكت في الحسابات ودراسة الاحتمالات. كما أنّنا لا نستبعد أن تكون جالت بخاطر سعيّد، في هذا السياق، فكرة التأجيل أو حتّى الإلغاء اجتنابا لأيّ طارئ يمكن أن يعصف بحمكه. ولكن قد يكون الخوف من اهتزاز شرعيته المهتزة أصلا منذ انقلاب 25 جويلية 2021 دفعه في النهاية هو ومحيطه إلى تحديد موعد الانتخابات والعمل على ضمان نتائجها مسبقا.
ومن البديهي أنّ موعد الانتخابات، وإن كان احترامه ضروريّا في أيّ نظام ديمقراطي، فإنّه لا يمثل في حدّ ذاته إنجازا، ولا هو كاف للتدليل على التمسّك بالشرعية والديمقراطيّة لأن الانتخابات لا تقاس في النهاية بإجرائها في مواعيدها وإنما تقاس بظروف إجرائها القانونية والسياسية وبمدى تمثيلها للإرادة الشعبيّة. فقد كان بورقيبة وبن علي يجريان الانتخابات في مواعيدها ولكن ذلك لم يمنع أن تكون تلك الانتخابات عملية شكلية، لا ديمقراطيّة، معلومة النتائج مسبقا، لا هدف منها سوى إضفاء طابع شرعي زائف على نظام دكتاتوري، استبدادي. ويعود سبب ذلك إلى غياب الشروط الديمقراطية الدّنيا في العملية الانتخابية. وهذه الشروط معروفة وهي حرية الترشّح وحرية الدعاية ووجود هيئة انتخابات مستقلة وإدارة محايدة وقضاء مستقل للحسم في النزاعات الانتخابية. وإذا كانت هذه الشروط احتُرِمت شكليا بعد الثورة وهو ما سمح لقيس سعيّد بالوصول إلى قرطاج في انتخابات 2019 فإنها أصبحت بعد انقلاب 2021 منعدمة تقريبا.
لقد نسف قيس سعيد شروط الانتخابات الحرّة والديمقراطية الدنيا الواحدة بعد الأخرى. وهو ما جعل من الانتخابات البرلمانية والمحلية التي أجراها انتخابات شكلية لم يشارك فيها قرابة 90 بالمائة من الجسم الانتخابي. ولا تختلف الوضعية اليوم في الانتخابات الرئاسية التي حدّد موعدها لشهر أكتوبر القادم. فحرية الترشح مثلها مثل حرية الدعاية منعدمة أو تكاد. وهيئة الانتخابات فاقدة للاستقلالية والإدارة غير محايدة والقضاء مفكّك وموظّف لخدمة سعيّد. وقد اتسع القمع في هذه الظروف ليشمل كل معارضي سلطة الانقلاب ومنتقديها من سياسيين ونقابيين ونشطاء مجتمع مدني ومثقفين ومبدعين ومواطنين عاديين وهو ما أشاع مناخا من الخوف. وإلى ذلك كلّه فإن غالبية الذين أعلنوا ترشّحهم أو عبّروا عن الترشّح وآخرهم عبد اللطيف المكّي المنشق عن حركة النهضة، يجدون أنفسهم اليوم إمّا خلف القضبان أو ملاحقين قضائيا وهم في حالة سراح أو في المنفى. وهو ما يجعل من الانتخابات الرئاسية القادمة مجرد مهزلة وحلقة من حلقات المسار الانقلابي التي تهدف إلى إضفاء شرعية زائفة عليه وعلى الحكم الفردي المطلق، الاستبدادي الذي أنتجه.
وهكذا فإن تحديد موعد الانتخابات لا يغيّر شيئا من طبيعتها الشكلية واللاديمقراطية ولا يمكن أن يكون له وللتنقيح الخاص بالقرار الترتيبي المتعلق بقواعد وإجراءات الترشح الذي أعلنت عنه هيئة بوعسكر يوم الخميس 4 جويلية أيّ تأثير بخصوص الموقف منها. إن الشيء الوحيد الذي يُتيحه هذا المستجدّ هو وضع الخطة الملموسة السياسية والعملية لمقاطعة المهزلة مقاطعة نشيطة بعد تثبيت تاريخها. إن المطروح على قوى المعارضة الديمقراطية التقدمية هو الانكباب على هذه المسألة ذات الأولوية من أجل بلورة ديناميكية تعزل قيس سعيد وسلطة الانقلاب عامة وتسمح بمراكمة القوى على طريق إسقاطهما والتخلّص منهما. إن سعيّد، شأنه شأن بن علي، لم يفتك السلطة عن طريق “انقلاب دستوري” ليسلّمها على طبق إلى غيره وإنما هو افتكها ليحافظ عليها بكل الوسائل وقد قال بوضوح أكثر من مرّة إنّه لن يسلمها “لغير وطني” كما قال إن مسألة الانتخابات “مسألة بقاء أو فناء” بالنسبة إليه. وسعيّد أيضا، مثله مثل بن علي وكل مستبدّ، لن يتخلى عن السلطة إلا إذا أرغمه الشعب المنتفض على ذلك. وهو ما لن يتمّ دون عمل دؤوب في صفوف الشعب للارتقاء بوعيه وتنظيمه والخروج به من حالة التراجع الحالية عبر خطة تراعي المستعجل من مطالبه وتربطه بالهدف العام، هدف التحرير من الاستبداد وإرساء قواعد نظام وطني، ديمقراطي وشعبي جديد، تحقق في ظله الطبقات والفئات الكادحة والشعبية مطلبها المركزي في الشغل والحرية والكرامة الوطنية.

إلى الأعلى
×