الرئيسية / صوت العالم / ماذا بعد الدور الأوّل للانتخابات التشريعية في فرنسا؟
ماذا بعد الدور الأوّل للانتخابات التشريعية في فرنسا؟

ماذا بعد الدور الأوّل للانتخابات التشريعية في فرنسا؟

بقلم عادل ثابت

جاءت نتائج الدور الأول للانتخابات التشريعية في فرنسا في تناسق مع انتخابات نواب البرلمان الأوروبي التي جرت قبلها بثلاثة أسابيع.
فقد أكّدت نتائج الدور الأول مرة أخرى وبما لا يدع مجالا للشك الرفض الواسع لماكرون ولسياساته، إذ حلّ الائتلاف الحاكم في المرتبة الثالثة بنسبة 20.04 % بعيدا وراء ائتلاف “الجبهة الشعبية الجديدة” التي شكلتها القوى اليسارية الفرنسية في غمرة الإعداد لهذه الانتخابات(1) والتي جاءت في المرتبة الثانية بنسبة 28.06 %. كما أكّدت أيضا أنّ اليمين الفاشي وحلفاءه يبقى إلى حدّ الآن المستفيد الأول من اتساع الرفض الشعبي لسياسة ماكرون المعادية للعمال وللفئات الشعبية، حيث فاز بالمرتبة الأولى بنسبة 33.1 % من الأصوات أي ما يعادل 10.6 مليون ناخب وهو رقم قياسي.

ملاحظات أولية حول أرقام الدور الأول

بلغت نسبة المشاركة في الدور الأول 66.71 %، أي بزيادة أكثر من 19 نقطة مقارنة بالانتخابات التشريعية في 2022 (47.51 %)، وهي نسبة قياسية لم تتحقق منذ الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها سنة 1997 والتي بلغت نسبة المشاركة في دورها الأول 67.9 %.
إن المشاركة والاهتمام الذي حظيت به الانتخابات التشريعية هذه المرة يرجع إلى أنها كانت محطة انتخابية مستقلة بذاتها، يمكنها أن تكون بمعنى ما استفتاء حول حكم ماكرون وسياساته وأن تفضي إلى انتقال مركز الحكم من قصر الرئاسة إلى قبة البرلمان، وذلك على خلاف الانتخابات التشريعية التي جرت منذ 2002 والتي كانت تنظم مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية ممّا جعل منها في غالب الأحيان مجرّد تزكية للرئيس المنتخب لتمكينه من أغلبية للحكم.
إن النسب التي تحصّلت عليها مختلف الأطراف في الدور الأول لا يعني أنها ستترجَم آليا على مستوى عدد المقاعد أو بالحصول على أغلبية في البرلمان. يرجع ذلك إلى طبيعة نظام الاقتراع المعتمد في فرنسا، وهو نظام اقتراع على الأفراد بأغلبية الأصوات في دورة(2) أو دورتين إن اقتضى الأمر(3) في كل دائرة انتخابية. ويمكن القول أنه غالبا ما يحسم الرهان بالنسبة للعدد الأكبر من المقاعد بعد الدور الثاني مع ما يعنيه ذلك من تحالفات وانسحابات بين الدورتين ومدى تأثيرها على موازين القوى الانتخابية للفوز في كل دائرة.
هذه المرة، لم تحسم نتائج الدور الأول سوى مآل 76 من مجموع 577 مقعد، يتوزّع أغلبها بين اليمين العنصري الذي يضمّ “التجمع الوطني RN” وحلفاءه (39 مقعد) وبين “الجبهة الشعبية الجديدة NFP” (32 مقعد). كما أنه يمكن نظريا، بقطع النظر عن الانسحابات الممكنة ضدّ أحد المترشحين أو لفائدة أحد المترشحين، وفقا لتلك النتائج أن يتقدم 3 مترشحين للمشاركة في الدور الثاني في 306 دائرة، وحتى 4 مترشحين في 5 دوائر، مردّ ذلك نسبة المشاركة المرتفعة.

الرهانات السياسية

لئن كان رهان ماكرون، من خلال قراره المغامر بحل البرلمان مساء هزيمته في الانتخابات الأوروبية التي جرت يوم 9 جويلية، هو البحث عن إعادة تشكيل وتعزيز ائتلافه الحاكم المهترئ عبر مساومة الناخبين و”القوى السياسية الجمهورية المعتدلة” بمنحه الثقة لسدّ الباب أمام المتطرفين من أقصى اليمين (التجمع الوطني RN) وأقصى اليسار (فرنسا الأبية LFI)، فإن نتيجة الدور الأول أكّدت الفشل الذريع لمساعيه. ولكن ماكرون ووزيره الأول لم يفقدا الأمل بعد ولا يزالان يعملان على التخفيف أكثر ما يمكن من الهزيمة والمحافظة على كتلة نيابية وازنة بعد الدور الثاني تمكنهما من لعب دور حاسم في تشكيل الائتلافات الحكومية المقبلة.
أمّا من جهة اليسار، فإن الجبهة الشعبية الجديدة، الحديثة النشأة، طرحت نفسها بديلا للحكم عبر تبنّي برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي مفصل يتضمّن إجراءات مباشرة ومتوسطة المدى (15 يوم الأولى و100 يوم الأولى وبعدها) في أفق 2027. وقدّمت بذلك نفسها على أنّها الحل الذي يمكّن من طيّ صفحة ماكرون وسياساته اللاشعبية واللاديمقراطية وفي ذات الوقت من قطع الطريق أمام اليمين الفاشي المتربّص بالمكاسب الاجتماعية والسياسية (على تراجعها الهام في العشريات الأخيرة). هذا السلوك الذي نثمنه كان في مستوى اللحظة التاريخية وما تقتضيه من تكتل لدرء الخطر الفاشي الداهم.
ولئن لم يمكّن الدور الأوّل من الإجابة بصفة نهائية على مدى النجاح في تحقيق هذا الرهان، باعتبار الجبهة الشعبية الجديدة حلّت في المرتبة الثانية، فإنه أكّد جملة من الحقائق،
أوّلها أحقية اليسار بأن يكون الطرف المؤهل دون غيره لمقارعة اليمين الفاشي وذلك رغم الصعوبات والحواجز الداخلية والخارجية التي لاقتها ولا تزال الجبهة الشعبية الجديدة خلال هذه الانتخابات. أهمّ تلك الصعوبات الحملة الممنهجة للتأثير على الناخبين التي شنتها المنظومة الرسمية ووسائل الإعلام الخاضعة لدوائر رأس المال لشيطنة حركة فرنسا الأبية LFI واستهداف زعيمها ميلانشون عبر اتهامهما بالتطرّف ومعاداة السامية وتحويلهما إلى عدوّ أكثر خطر حتى من اليمين الفاشي على الجمهورية. أمّا على المستوى الداخلي، فقد تعدّدت مساعي البعض من الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر لمحاصرة فرنسا الأبية وميلانشون بالخصوص بغاية تعديل موازين القوى داخل الجبهة لصالح تلك الأحزاب ولأجل حسابات انتخابوية وسياسيوية ضيقة. هذا الصراع الداخلي بصدد التطوّر، وهو أكثر وضوح بعد الدور الأول، نحو تكتيكين مختلفين. تكتيك، تعبّر عنه فرنسا الأبية، يعمل على تعزيز مكانة الجبهة الشعبية الجديدة لتكون الإطار الجامع الذي يقود المعركة من أجل الحكم وسدّ الباب أمام اليمين الفاشي دون التحالف مع ماكرون، وتكتيك ثاني يعتبر الجبهة الشعبية الجديدة إطارا منتهي الصلاحية تقريبا باعتبارها لن تحصل على أغلبية برلمانية وأنه آن الأوان لتشكيل ائتلاف جديد واسع ضدّ “التجمع الوطني RN” على قاعدة نتائج الانتخابات.
الحقيقة الثانية التي أكدها الدور الأوّل لهذه الانتخابات هو المبدئية والمسؤولية التي تعاملت بها الجبهة الشعبية الجديدة مع الخطر الفاشي، حيث أعلنت مباشرة بعد الدور الأوّل عن سحب مرشحيها الذين جاؤوا في المرتبة الثالثة من جميع الدوائر التي يمكن أن تتيح فوز مرشح “التجمع الوطني RN” (اليمين الفاشي). بالمقابل رفض الحزب الجمهوري (اليمين التقليدي) وبعض مرشحي الائتلاف الحاكم الانسحاب في مثل هذه الحالة. في هذا الصدد، نشير إلى أن عدد الدوائر التي يتقدّم فيها 3 مترشحين للدور الثاني يبلغ 89 دائرة (بعد أن كان ممكنا أن يصل هذا العدد إلى 306 دائرة في حالة عدم حصول انسحابات).
في الختام، ولئن باتت حظوظ “التجمع الوطني RN” وحلفاءه ضعيفة في الحصول على أغلبية مطلقة بعد الدور الثاني خصوصا بعد العدد الكبير من الانسحابات، فإن جزء كبيرا من الرأي العام قد طبّع مع فرضية وصوله إلى الحكم وهو ما قد يجعل منه أحد الفائزين من هذه المحطة الانتخابية مهما كانت مآلات الحكم اليوم. إن خطورة أزمة النظام الرأسمالي في فرنسا وعدم قدرة تعبيراته السياسية التقليدية على تأمين مصالحه تجعل فرضية صعود اليمين الفاشي أمرا قائما.
بالمقابل، في الأوضاع الراهنة، وخصوصا أمام ضعف الحركة الثورية، تبقى تجربة الجبهة الشعبية الجديدة ونجاحها في خلق دينامية تتجاوز مكوناتها السياسية لتمتدّ إلى النقابات والحركات الشبابية والنسائية والحركة الجمعوية الإطار الأمثل لمواجهة تلك الفرضية والدفاع عن بديل لصالح العمال والطبقات الشعبية.

هوامش:

(1) انظر مقال “فرنسا: اليمين الفاشي على أبواب الحكم؟” الصادر في “صوت الشعب” العدد 31 – الجمعة 14 جوان 2024.
(2) يعود المقعد النيابي بالدائرة للفائز في الدور الأول شرط حصوله على أكثر من 25 % من المسجلين.
(3) في حالة عدم الفوز بالنيابة منذ الدور الأول، يمكن لكلّ من جاء في المرتبة الأولى أو الثانية أو تحصل على أكثر من 12.5 % من المسجلين الترشح للدور الثاني.

إلى الأعلى
×