بقلم شريف خرايفي
في أوّل تصريح لها على هامش أيام مناظرة الباكالوريا 2024 في دورتها الرئيسية، وفي إجابة لها على ظاهرة الغشّ في الامتحانات، قالت وزيرة التربية السيّدة سلوى عبّاسي أنّ ظاهرة الغشّ ارتبطت أكثر ببعض الجهات التي يوجد بها التّهريب. وفيما كان الرّأي العام ينتظر استدراكا من السيدة الوزيرة أو اعتذارا عن هذا الوصم “الجغرافي” والجهوي، إلاّ أنّها عادت بعد أسبوع في ندوة صحفية خاصة بنتائج المناظرة المذكورة لتؤكّد و”تتمسّك” بما قالته سابقا.
ورغم أنّ الوزيرة نفسها أقرّت، في الندوة وفي تصريحات إذاعية، أنّ حالات الغشّ هذه السّنة أقلّ بكثير من النِّسب التي تمّ تسجيلها في السنوات السابقة، إلاّ أنها لم تقدّم تفسيرا موضوعيّا، حسب رأيي، لمسبّبات هذه الآفة، بل ربطتها بوجود أنشطة اقتصادية معروفة للعموم، وهي التّهريب (الاقتصاد الموازي). ورغم كون هذا السّبب يعكس أحد أوجه الاختلال التنموي الذي تعيشه البلاد منذ فترة الاستعمار، إلاّ أنّنا لم نجد سببا وجيها ومقنعا يجعل تعاطي نشاط التّهريب يغذّي الغشّ في المناظرات؟
من المهم قبل كل شيء أنّ تواصل ظاهرة الغش في الامتحانات بصفة عامة، وفي المناظرات الوطنية بصفة خاصة، من الأمراض التي تنخر منظومتنا التعليمية ومن بين العوامل التي تستهدف الثقة في هذه المنظومة وتضرب مبدأ تكافئ الفرص بين المتناظرين، وبالتالي، لا أحد يقبل أو يرضى أن تحفّ بمناظراتنا وامتحاناتنا مشاكل أو تمسّها بسوء، بل الأجدر والقاعدة هو التّعويل على النفس وعلى ما يكتسبه الممتحَنُ والمتناظر من معارف ومهارات، وما تدرّب عليه من مناهج للظّفر بالنجاح عن استحقاق.
وعموما فإن مرتكبي الغشّ هم عادة ضعيفي التحصيل الدّراسي، وأيضا من تجدهم عرضة للضغوطات العائلية والتي تدفع البعض إلى محاولة النّجاح بأي طريقة، هذا عدا خوف التّلميذ أو الطّالب من الرّسوب والإخفاق.
وقد لا نبالغ إذا قلنا أنّ أحد أسباب عدم إيلاء التعليم والتميّز لدى البعض مردّه ضبابية وغموض المستقبل خاصّة مع انسداد أفق التشغيل وتجميد الانتدابات منذ سنوات، وسيتواصل لسنوات قادمة، وهو ما يعني، في سيكولوجيا التلاميذ والطّالب معا أن لا قيمة للدّراسة والنجاح بتميّز بما أنه سيجد نفسه على نفس الخطّ مع المتميزين في طوابير انتظار الدّولة تمنّ عليهم بفرصة عمل لن تأتي. ومن هنا فانطلاقا من هذه “المسلّمات” لا يجد التلميذ نفسه مضطرّا لبذل مجهود في النجاح، فسيعمل على تحصيل “عشرة الحاكم” أو اللّجوء إلى الغشّ، بما أنّ البطالة هي مصير الكلّ ولن تستثني أحدا، نوابغا أو غيرهم، وشعارهم في ذلك “تقرا ما تقراش، المستقبل ما ثمّاش”.
وبالعودة إلى تصريح الوزيرة، فهو يعتبر سَبْقا. فلا أحد من وزراء التربية السابقين قد ربط الغشّ ب”الكُنْترا”. الغشّ يجتاح كلّ معاهد ومؤسسات التعليم وفي كلّ الجهات، بل هي ظاهرة عالمية، ترتفع أو تتقلّص حدّتها حسب ما تتّخذه هذه الدّولة أو تلك من إجراءات تربوية وتثقيفيّة وتقنيّة وتوعويّة.
التهريب، الذي ربطت الوزيرة الغشّ به هو أحد متلازمات الفشل التنموي لكل الحكومات ومنظومات الحكم المتعاقبة. فكلّما تراجع دور الدّولة وتنصّلت من مسؤوليتها في توفير الحاجيات المعيشيّة للمواطنين إلاّ ونشطت وحلّت محلّها المبادرات الفردية (والتي قد تكون في حالات قليلة ونادرة عبر مشاريع خاصة، أو عبر تعاطي أنشطة غير قانونية وغير مشروعة، أو يهجرون مسقط رأسهم ويلوذون بالهجرة، نحو الدّاخل أو إلى الخارج بحثا وأملا في فرص عيش أفضل…)؛ كلّما فشلت سياسات الدّولة في تأمين أساسيات الحياة، من تعليمٍ وصحةٍ وتشغيلٍ، كلّما التجأ الناس إلى حلولٍ أخرى، بعضها “مشروع” وأغلبها “غير مشروعٍ”. وبالتالي عوضا عن “لعن الظّلام” الأحرى هو “إيقاد شمعة”، الأجدر هو توفير مقوّمات العيش الكريم لكلّ المواطنين على حدّ سواء، دون تفرقة ودون تمييز، وعوضا عن وصم بعض الجهات الحدوديّة كونها “حاضنة” للغشّ، كان الأجدر هو الانكباب على توفير مقوّمات النّجاح للجميع، من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وفي مراكز المدن وأطرافها بالأحياء الشعبيّة…
الحقيقة الواضحة، انطلاقا من نتائج امتحانات الباكالوريا في دورتها الرئيسيّة، أنّ هناك جهات تحافظ على تميّزها في الترتيب الوطني منذ سنوات وعقود، وهناك جهات تتذيّل الترتيب أيضا منذ سنوات وعقود.
ولكن الحقيقة الدّامغة أيضا أنّ هناك تطابق شبه كلّي بين خارطة التنمية وخارطة نسب النّجاح. فكلّما كانت الدّولة حاضرة بمشاريع تنموية وببنى تحتيّة متطوّرة وبتوفير الاعتمادات الضرورية، وكلّما كنت العائلة توفّر الاعتمادات الضرورية للاستثمار في تعليم الأبناء ومتابعتهم، كلّما كانت النتائج جيّدة ومبهرة. وكلّما انسحبت الدّولة عن هذه المسؤوليات كلّما قلّ تدهورت قيمة التعليم وقلّ اهتمام العائلة (نسبيّا طبعا) بتعليم الأبناء وكانت النتائج مخيّبة ودون المستوى. هذا ناهيك عن حجم الانقطاع المبكّر عن الدراسة، والذي لم نسمع من كلّ الذين مسكوا بمِقْود الحكم قد دقّوا ناقوس الخطر وانكبّوا بشكل طارئ لمعالجته. وبالتالي لو كانت هناك مساعي جدّية لمحاصرة آفة الغشّ لكنّا لمسنا ذلك في المساعي الجدّية والواقعية لمحاربة الفقر والتهميش والبطالة والخصاصة، في المناطق الحدودية وفي الأحياء الشعبيّة.
من وجهة نظري، لا يجب تبرير الغشّ مهما كان، فهو خطر محدق بتعليمنا وبالمعرفة وبمستقبل الأجيال والنّاشئة، بل كلّ ما أردنا طرحه هو التصدّي للأفكار والمواقف الشعبويّة المغالِطة والمُضلٍّلة التي تقفز على العلل الحقيقيّة، والتي هي مفتاح النهوض الحقيقي، وتلقي بالمسؤولية على الناس وعلى الجهات وعلى الفئات المقصيّة من دائرة الإنتاج والنّفوذ. كلّ ما نرنو إليه هو الإشارة بالإصبع إلى أصل الدّاء وسبب العلل كلّها: منظومة الحكم اللاشعبية؛ لا هي أفلحت في الحاضر ولا ستفلح مستقبلا لأنها فاقدة لمقوّمات النّجاح في تلبية حاجيات النّاس في إخراج البلاد من “الوادي السّحيق” الذي تردّت فيه.
موضوع كهذا، لا يُمكن الإحاطة بكلّ جوانبه في مقال أو بضع صفحات، بل هو مجال بحثي ودراسي متروك لذوي الاختصاص، من علم اجتماع وعلم نفس وعلوم التربية وروافد علمية أخرى، يكون لها القول الفصل في فهم هذا السّلوك وهذه الظاهرة والسعي لمعالجتها، بعيدا عن “الشّو” وعن المعالجات المبتورة والموظَّفة.