الرئيسية / صوت الثقافة / ما أحوجنا إلى الطّاهر الهمّامي في واقع اليوم
ما أحوجنا إلى الطّاهر الهمّامي في واقع اليوم

ما أحوجنا إلى الطّاهر الهمّامي في واقع اليوم

بقلم عمر حفيظ

لم يكن الطّاهر الهمّامي سياسيّا بالمعنى الاختزاليّ التّبسيطيّ لمصطلح “السّياسيّ” الذي يحتاج – في ما نرى – إلى توضيح. فالمقصود من “السّياسيّ” أوسع من أن يُختزل في السّلطة السّياسيّة وإن كان يشملها. ونحن نستأنس، ههنا، بما ذكره جاك رونسيار Jacques Rancière في كتابه Politique de la littérature(1) مستندا إلى أرسطو في اعتباره “البشرَ جميعا كائناتٍ سياسيّةً قادرة على التّمييز بين العدل والظّلم والخير والشّرّ والخطأ والصّواب على خلاف الحيوانات التي لا تميّز إلاّ بين اللذّة والألم”.
ومن هذه الجهة، فإنّ السّياسيّ – بالمعنى الذي تمّت الإشارة إليه – يصبح تعبيرا عن القيميّ “ويجعل اللاّمرئيّ مرئيّا، ويحوّل من كانوا يضجّون كحيوانات مزعجة إلى مسموعين”(2). ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ الرّجل كان مسكونا بسؤال “السّياسيّ” بالمعنى الذي تمّت الإشارة إليه سابقا. هذا المشروع الواسع الثّقيل الذي “يجعل اللاّمرئيّ مرئيّا، ويحوّل من كانوا يضجّون كحيوانات مزعجة إلى مسموعين” هو في الواقع مشروع حزب أو أحزاب أو دولة بأسرها، ولكنّ الطّاهر كان مسكونا به بمفرده. ولذلك كان يلتفت إلى أكثر من جهة: إلى السّياسة بالمعنى الحصريّ، وإلى النّقابة وشؤونها، والبحث العلميّ وإكراهاته، والشّعر ومضايقه، والكتابة وآلامها عامّة.
الطّاهر مناضل ثقافيّ بالمعنى العامّ للكلمة، وهو من المؤمنين إيمانا ثابتا بأنّ الثّقافيّ هو المدخل الأمثل لترسيخ القيميّ النّبيل والسّياسيّ الذي يُلبّي طموح “الضّاجين” فشعره – منذ أن بدأ كتابة الشّعر – يردّد أصوات المغلوبين والمهمّشين والمقهورين والمدافعين عن الحقّ، ويفضح ما سقط فيه الواقع من تفاهات. ولذلك كان كثيرون يرفعون في وجهه شعار “أين الجماليّ؟”. وهذه مغالطة يتعمّد أصحابها تكرارها لأنّهم لم يكونوا قادرين على “مكيجة maquiller” الواقع المتهافت. يقول في قصيدة “كأس العالم” في ديوان “صائفة الجمر” الصّادر في طبعته الأولى سنة 1984، أي بعد اجتياح الصّهاينة لجنوب لبنان:

متْ محنيّ الظّهر على القفّه
ما بين رؤوس البصل
مُتْ محنيّ الظّهر
لا تصحُ فبعيدا مازال الفجر
لا تنهضْ
يتلاطم هذا الأبيض
حولك يتلاطم
وأراك سجينْ
وأراك رهينْ
تترقّب رأس الشّهر تترقّب أن تُذبح
مُتْ لا تنبحْ…
خَبِّئْ وجهك في الرّمل
وتفرّج في شاشة عينك
ذي ’’كأس العالم‘‘
كأس العالم هذا العام
كأس العالم
مُتْ محنيّ الظّهر على الجمر
وعش بنواة التّمر
ولا تسأل
كُلْ، بُلْ، روِّثْ، لا تحفل
”شدّ الصّف”
وتحمّل
”أكل الكفّ”
لا أعجب حين أرى بيروتْ
محاصرةً
وصدى صوتك مكبوتْ
لليوم العشرين مُسَرْكَلَة ومُقَنْبَلَة
بيروتْ
وتلافزهم تتبارى في نقل “الكأس”
وعرض أحطِّ مسلسل
في دمع اليأس
ومدح الأسفل
لا أعجب إن قطع الغازي حتّى الماء
وقضى الأطفال عطاشى
والوطن البائسْ
يمتدّ مسابحْ
للسّائحة الشّقراء
وللسّائحْ

لم يكن الطّاهر عاجزا عن استنبات “الجماليّ” كما يراه “جماليّو” اللاّمبالاة والإعراض عن معاناة الشّعوب، ولكنّه كان يُردّد باستمرار: أيّ معنى للجماليّ في الكتابة والبشر يعيشون البؤس والاستبداد والاحتلال والاستعمار؟!
لم تتغيّر أشياء كثيرة. بالأمس لبنان، واليوم فلسطين وغزّة تحديدا، والجماليّ الذي ينكره كثيرون اليوم هو فضح هذا الصّمت العربيّ إزاء محرقة غزّة وفلسطين. أليس هذا المقتطع من قصيدة “كأس العالم” خطابا يليق بنا نحن عرب هذه الأيّام، مثلما كان لائقا بعرب تلك الأيّام؟!
ليس الأدب والفنّ عامّة بالنّسبة إلى الطّاهر الهمّامي تيها في صحارَى الوجود أو انكفاءً على الذّات أو معابثة للّغة، وإنّما هو أسئلة تُلقى في وجه المتعاليات السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة والكتابيّة والنّقديّة كذلك. والسّؤال بالنّسبة إليه هو المدخل الأمثل لتأسيس الثّقافيّ الإنسانيّ الذي تحتاجه الإنسانيّة جمعاء ويحتاجه العرب اليوم أكثر من غيرهم.

هوامش:

(1) Jacques Rancière, Politique de la littérature, Galilée, 2007.p.12.
(2) Ibidem.

إلى الأعلى
×