الرئيسية / صوت الثقافة / غسّان كنفاني في ذكرى رحيله
غسّان كنفاني في ذكرى رحيله

غسّان كنفاني في ذكرى رحيله

بقلم إبراهيم العثماني

الشّخصيّات الرّموز لا تُمحى من الذّاكرة ولا يطويها النّسيان رغم تعاقب السّنين وتتالي الأعوام. فهي خالدة منتصبة أمام أعيننا، راسخة في وجداننا، عالقة بأذهاننا. وكلّما مرّت ذكرى رحيلها استحضرنا مآثرها وخصالها وأفضالها، واستعرضنا صفحات مشرقة من تاريخها، ومواقف بطوليّة من مسيرتها للتّأمّل والعبرة والاعتبار. ولنا في شخصيّة غسّان كنفاني (1936- 1972) أفضل مثال. فمن يكون غسّان كنفاني؟

1. في التّعريف بغسّان كنفاني

هو شخصيّة فاتنة آسرة، متأصّلة تأصّل شجر الزّيتون، متجدّدة تجدّد زهر اللّيمون. وكلّما حسبت أنّك سبرت أغوارها واستنفدت طاقاتها استفقت من وهمك وتبيّن لك إن هي إلاّ أضغاث أحلام. شخصيّة يعسر التّعريف بها وتحديد هويّتها والإلمام بمجمل مكوّناتها. فهو من أساطين الشّخصيّات الفلسطينيّة الّتي تجاوز إشعاعها المكان (فلسطين)، والزّمان (ستّينات القرن العشرين)، والمهنة (مدرّس وكاتب وصحفي)، والانتماء (الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين)، واستحال إبداعها وفكرها ونضالها واستشهادها مصدر إلهام ينهل منه كلّ وطني متيّم بحبّ وطنه أينما كان، وكلّ عاشق للتّضحية في سبيله حيثما عاش.
هو كاتب رواية وقصّة ومؤلّف مسرحي وناقد أدبي. وهو مناضل سيّاسيّ تأتمّ به صفوة المناضلين الصّادقين وتترسّم خطاه، وتأمل النّسج على منواله. ولكنّ العمل الصّحفي أخذ الكثير من جهده وصحّته وفكره ووقته. فقد دخل عالم الصّحافة مبكّرا (عمره 19 سنة) حيث عمل، سنة 1955، محرّرا في جريدة “الرّاية” الّتي كان القوميّون العرب يصدرونها في دمشق، وفي سنة 1960 عمل في جريدة “الحرية” (قومية التوجه) في بيروت، وبين سنوات 1963-1967 أصبح رئيس تحرير جريدة”المحرّر” (ناصرية وتقدميّة)، وبين سنوات 1967-1969 أصبح رئيس تحرير ملحق جريدة “الأنوار” الأسبوعي (ناصريّة).
وختم حياته المهنيّة بتأسيس مجلّة “الهدف” الأسبوعيّة النّاطقة باسم الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين، وتولّى رئاسة تحريرها منذ ظهور عددها الأوّل في 26 جويلية 1969 حتّى يوم استشهاده في 8 جويلية 1972على يدي المخابرات الصّهيونيّة التي فجّرت سيّارته لأنّها كانت تعتبر كتاباته أمضى من السّلاح فتطاير جسده أشلاء متناثرة رفقة لميس ابنة أخته.
لقد أكسبته الغربة عن فلسطين الحبيبة منذ سنة 1948، والتّشرّد بين دول الجوار والانتقال القصري من قطر إلى آخر، وحياة الخيام ونضال الفدائيين، وهزائم العرب المتكرّرة وخياناتهم تجارب مضمّخة بالألم والمعاناة، ودفعه شظف عيش الفلسطينيّين المهجّرين والمشرّدين وبؤس حياتهم اليومي إلى الاقتناع بضرورة تصوير هذا الواقع المرير للتّمرّد عليه، وإلى اعتبار الكلمة سلاحا يضاهي أحيانا لعلعة البارود. لذا كان يكتب وينقد ويجادل حتّى استحال مبدعا خلاّقا مؤسّسا .

2. غسّان كنفاني الأديب الموسوعي والمبدع المتميّز

هناك مفارقة عجيبة غريبة يعسر فكّ أغلاقها وفهم طلاسمها وتتمثّل في اختلال المعادلة بين العمر القصير والإنتاج الغزير. عاش غسّان كنفاني ثلاثة عقود ونصف (1936-1972) وأنتج كمّا هائلا من الرّوايات والأقاصيص والمسرحيّات والدّراسات الأدبيّة والسّياسيّة (تولّت مؤسّسة غسّان كنفاني الثّقافيّة ودار الطّليعة ببيروت نشر هذه الكتابات في 5 مجلّدات)، واليوميّات (انظر:غسّان كنفاني يوميّات 1959-1960 / مجلّة الكرمل – العدد 2 ربيع 1981)، والرّسائل (انظر رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمان/ دار الطليعة بيروت ط1 / 1992)، والمقال السّاخر (انظر: غسّان كنفاني- مقالات فارس فارس – كتابات ساخرة/ دار الآداب بيروت ط1-1996).
وعندما نستعرض هذا الكمّ الهائل من الإبداع والإنتاج تنتابنا الحيرة ونطرح على أنفسنا سؤالا محرجا: متى كتب غسّان كلّ هذا؟ وهل كان يجد الوقت الكافي لينوّع كتاباته؟ وعن أيّ عقل يصدر كلّ ما أنتج؟
والطّريف أنّ غسّان كنفاني لم يكرّر نفسه ولم يجتر ما قاله بل دأب على التّجديد والإضافة. وقد وقف أكثر من ناظر في أدبه على هذه الرّوح البديعة الّتي تستنبط الجديد أوتتجاوز السّائد.
ولعلّنا لا نبالغ إن أكّدنا أنّ غسّان كنفاني وُهب عقلا مبدعا سبّاقا. فهو يتخيّر مواضيع لم يتفطّن إليها السّابقون ولا المعاصرون له ويبادر إلى طرحها وتعميق النّظر فيها، ويسعى جاهدا إلى تقديم الإضافة الّتي ينتظرها منه كلّ متابع لما يكتب وكلّ متلهفّ لما يضيف.
وقد خصّ الكاتب محمد عبد القادر سمتي الرّيادة والإبداع بالفصل الحادي عشر من الباب الثّاني من كتابه الموسوم بـ”جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة” (الهدف – الكتاب 12 – أغسطس/آب 2023). وفي الحقيقة لا يجد دارس أدب غسّان كنفاني عسرا كبيرا في تقصّي تجلّيات الرّيادة والسّبق والإضافة.
فهذا محمود درويش (1941-2008) يرى أنّ لغسّان كنفاني فضلا كبيرا على الشّعر الفلسطيني المقاوم في الأرض المحتلّة. فقد عرّف به بعد أن كان”نسيا منسيّا” وقدّمه إلى القارئ العربي وأقنعه بأنّ لهذه الأرض قضيّة وشعراء وشعرا يقاوم العدوّالمحتلّ.يقول درويش:” وبقينا مجهولين..
إلى أن قام غسّان كنفاني بعمليّته الفدائيّة الشّهيرة: الإعلان عن وجود شعر في الأرض المحتلّة” ثمّ يضيف قائلا: “إنّ ما فعله غسّان هو كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الأرض المحتلّة، وإضاءة كلّ موضع صمود يمارسه أبناء الشّعب الفلسطيني هناك. وكان الشّعر، ولايزال، أحد وسائل التّعبير عن هذه المواقع وعن هذا الصّمود”(تقديم المجلّد الرّابع – الدّراسات الأدبيّة – دار الطّليعة ط1 – 1977 – ص19/20/21).
أمّا أنيس صايغ فقد أثنى على الدّراسة القيّمة الّتي خصّ بها غسّان كنفاني الأدب الصّهيوني واعتبرها”فتحا مبينا” وأكّد أنّها “أوّل دراسة بقلم عربي وباللّغة العربيّة، على حدّ ما نعلم، في الأدب الصّهيوني بأساليبه وفنونه وبمراميه السّياسيّة العدوانيّة، خلال فترة من الزّمن، ومن آثار العشرات من الكتّاب الصّهيونيّين البارزين” (الدّراسات الأدبيّة م.س. ص465).
وغسّان كنفاني من أبرز الرّوائيّين الفلسطينيّين، إلى جانب إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، الّذين أحدثوا نقلة نوعيّة في الكتابة القصصيّة الفلسطينيّة بل إنّنا اعتبرناه رائدا في مجال الرّواية (انظر مقالنا: غسّان كنفاني والرّيادة الرّوائيّة- كتبناه سنة 2007 ونشرناه بجريدة “الشّعب” التّونسيّة ثمّ بالحوار المتمدّن تحت رقم 6572 بتاريخ 24/5/2020).
واعتبره محمد عبد القادر كاتب قصّة قصيرة متميّزا تجاوز معلّمته سميرة عزّام (1927-1967) الّتي تُعدّ رائدة في هذا المجال. لكنّ إبداع غسّان لم يقف عند حدود التّأثر بها بل كان له ميسمه المخصوص وطابعه المتفرّد. يقول:” ولا شكّ في أنّ قصص غسّان توحي بملامح تأثّره بقصص سميرة عزّام، لكنّ قارئ غسّان وسميرة معا من شأنه أن يصل إلى رؤية موضوعيّة مُفادها أن قصص غسّان كانت أكثر تنوّعا، وشخصيّاتها أكثر حيويّة وعمقا، وعالمها أكثر رحابة وإدهاشا” (جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة م.س. ص 122).
وبوسعنا أن نعدّد الأمثلة الّتي تدعم هذا النّبوغ وهي كثيرة ولا تخطئها العين إذ يكفي أن تكون قراءتنا موضوعيّة لتراثه الغزير حتّى نتبيّن مواضع التّفرّد والتّميّز العديدة. ولعلّ استمرار الكتابة عنه تُقيم الدّليل على أنّ مَعينه لا ينضب.

3. هل شُفي النقاد من حبّ غسّان كنفاني؟

ليس في نيّتنا استعراض الكتب الّتي تناولت تراث غسّان كنفاني بالدّرس والتّحليل والتّقليب ومقارنته بإبداع الكتّاب الفلسطينيّين الآخرين أوالأدباء العرب. نريد أن نشير فقط، من خلال هذه الفقرة، إلى أنّ الكتابة عنه لم تتوقّف منذ خمسة عقود ونيف، وإلى أنّ المقاربات تتعدّد ولا تتكرّر، وإلى أنّ الإضافات حاصلة لا محالة، وتنوّع العناوين يشي بالمكانة الّتي يحظى بها أدبه بين الأدب الفلسطيني، والإضافة النّوعيّة الّتي أغنى بها المدوّنة السّرديّة العربيّة :
غسّان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضلا (مؤلّف جماعي) – منشورات اتّحاد الكتّاب والصّحفيّين الفلسطينيّين – تموز/يوليو 1974.
رضوى عاشور: الطّريق إلى الخيمة الأخرى – دراسة في أعمال غسّان كنفاني – دار الآداب بيروت 1977.
أفنان القاسم:غسّان كنفاني: البنية الرّوائيّة لمسار الشّعب الفلسطيني من البطل المنفي إلى البطل الثّوري-دار الحرية- بغداد 1978.
فاروق وادي: ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينيّة-غسّان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا- المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر / لبنان 1981.
رفيقة البحوري-بن رجب: الأدب الرّوائي عند غسّان كنفاني – دار التّقدّم تونس / جويلية 1982.
يوسف سامي اليوسف: غسّان كنفاني- رعشة المأساة- دار منارات- عمّان 1985.
كريم مهدي المسعدي: الواقع الفلسطيني في الرّواية- دراسة نقديّة في أدب غسّان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا- دمشق 2006.
إنّ ما ذكرناه إن هو إلاّ “غيض من فيض” إلاّ أنّ هذا الكمّ الهائل من الدّراسات لم يشف غليل المتيّمين بأدب غسّان كنفاني، التّائقين دوما إلى مزيد الكشف عن خفاياه وأكبر دليل على ذلك الكتاب الموسوم بـ”جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة” للكاتب محمد عبد القادر والصّادر سنة 2023. وهو مبحث جامع شامل، ومؤلّف يحتوي على بابين و16 فصلا تحدّث فيه صاحبه عن العبقريّة والإبداع وعبقريّة غسّان كنفاني وتجلّياتها الإبداعيّة (قصص، روايات، مسرح، دراسات نقديّة وسياسيّة).

خاتمة

حظي غسّان كنفاني بمكانة بوّأته ليكون في مصاف جهابذة الكتّاب العرب، ورموز الثّقافة الكونيّة، وأيقونة النّضال الوطني. وقد ظلّ اغتياله جرحا ينزف منذ بداية السّبعينات، وأصبح شهر جويلية / تموز مناسبة سنويّة تقام فيها النّدوات السّياسيّة والتّظاهرات الفكريّة والملتقيات الأدبيّة، وتُناقش فيها معضلات الثّورة الفلسطينيّة وقضاياها الشّائكة وتُطرح فيها التّصوّرات الكفيلة بتحرير الأرض السّليبة ودحر العدوّ الصّهيوني.
ودأبت مجلّة”الهدف” على تخصيص عدد سنوي، في ذكرى الاغتيال، لدراسة أدبه وفكره ونضاله اعترافا بالجميل للمؤسّس والمناضل الّذي آمن بقيمة الكلمة. ألم يقل محمود درويش في شأنه:” ولكنّ غسّان كنفاني هو كاتب الحياة. كان يكتب لأنه يحيا. وكان يحيا لأنّه يكتب ويُحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني”. ثم يضيف قائلا: “لقد سقط غسّان كنفاني في ميدان الصّراع. سقط وهو يسيطر على موقعه الكتابي.. وقد اغتاله الأعداء لأنّه حمل فاعليّة الكتابة الّتي تصنع جيلا سيعثر على أداة التّعبير عن فاعليّته في السّلاح” (م.س. ص ص12/13).
غسّان كنفاني حاضر دوما بيننا والكتابة عنه لا تقتصر على مناسبة الاغتيال بل تتكثّف في هذه اللّحظة الموجعة القاسية. فما سرّ خلوده؟ وهل قدّم كتاب “جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة” جوابا شافيا كافيا؟

إلى الأعلى
×