بقلم علي الجلولي
يوم 26 جوان لم يكن يوما عاديا في بوليفيا وفي عاصمتها “لاباز” وتحديدا في “ساحة موريو” المتاخمة للقصر الرئاسي أين تقابلت إرادتان، إرادة “زونيغا” قائد الجيش الذي تمت إقالته قبل يوم على خلفية تصريحات سياسية استهدفت الرئيس السابق “ايفو موراليس” بتوجيه تهديد علني له باعتقاله إن شارك في الانتخابات الرئاسية المبرمجة العام المقبل، وإرادة الشعب البوليفي الذي لم يتردد ثانية أمام محاولة الانقلاب العسكري إذ نزلت الجماهير الواسعة إلى الشوارع وأعلنت المركزية النقابية الأكبر في البلاد الإضراب العام المفتوح، فيما توجه الرئيس “آرسي” إلى قائد الانقلاب لمواجهته بصدر عار موجها له الأمر بالانسحاب من القصر الرئاسي وتنفيذ الأوامر. وقد نقلت شاشات التلفزيون أجمل الصور التي تقابل الإرادتين لذلك لم يستمر الانقلاب أكثر من ثلاثة ساعات كانت كافية لإحباطه وإيقاف قادته من عسكريين ومدنيين. وفيما لاقى الانقلاب إدانة واسعة من أغلب بلدان العالم، فان الولايات المتحدة لازمت الصمت، بل كتمت أنفاسها لساعات تراقب تطور الأوضاع على الميدان والتي انتهت بتوجيه صفعة لها ولزبانيتها وأدواتها الذين لا يترددون في لعب أقذر الأدوار كما لعبها قائد الجيش البوليفي السابق.
لماذا بوليفيا ولماذا الجيش؟
لئن ظلت أمريكا الجنوبية في نظر الجار الشمالي مجرد حديقة خلفية يفعل فيها ما يريد كيفما يريد، فان شعوب جنوب القارة فرضت في السنوات الأخيرة منطقا آخر يتجه أكثر نحو استقلالية القرار الوطني بوصول حركات اجتماعية ومدنية إلى الحكم بعد فرض انتخابات تعددية وديمقراطية، بعد تحكم في المسارات السياسية لمدة عشرات السنين من قبل الامبريالية الأمريكية. وقد أوصل التيار الاستقلالي حكاما ذوي جرأة مثل “هوقو شافيز” في فنزويلا و”ايفو موراليس” في بوليفيا، كما أوصلت “لولا ديسيلفا” إلى كرسي حكم البرازيل، ومنذ عامين “غوستاف بيترو” في كولومبيا التي ظلت لعقود ثكنة لوكالة المخابرات الأمريكية. لقد شكل وصول هؤلاء إلى حكم بلدانهم ضربة موجعة للهيمنة الأمريكية التي بدأت في التراجع اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا، ويشكل استمرار حكم “الحركة من أجل الاشتراكية ” في بوليفيا مسا من المصالح الإستراتيجية الأمريكية. فبوليفيا تحتوي في باطن أرضها ثروة هامة خاصة من معدن “الليثيوم” الذي يعتبر أساسيا في اشتغال كل أنواع البطاريات وفي صناعة الزجاج والسيراميك، وأصبح هذا المعدن ذي قيمة أعلى في السنوات الأخيرة بعد توجه عديد الدول إلى صنع واستعمال السيارات الكهربائية. وقد تلقت الشركات الاحتكارية الأمريكية وحليفتها المحلية ضربة موجعة حين قامت دولة بوليفيا سنة 2009 إبان حكم “موراليس” بتعديل الدستور واعتبار مجمل الثروات الباطنية ملكية وطنية، لقد ضرب تأميم ثروات البلاد مصالح رأس المال الأمريكي خاصة وأن بوليفيا تمتلك صحبة الشيلي والأرجنتين ما بين 50 إلى 70% من احتياطيات هذا المعدن، وهو أكبر احتياطي في العالم. لذلك صرحت مديرة القيادة الجنوبية “لورا ريتشاردسون” في شهر مارس2023 أن “مثلث الليثيوم” (أي بوليفيا والأرجنتين وتشيلي) يعدّ “مشكلة أمن قومي في الساحة الخلفية للولايات المتحدة”.
إن هذا التصريح بهذا الوضوح وهذه الوقاحة إنما يعبر عن حقيقة الامبريالية وحقيقة رأس المال الاحتكاري العالمي الذي لا يرى في بلدان العالم وشعوبه إلا مصالحه الجشعة. إن هذه المعطيات الاقتصادية ظلت معطى ثابتا في السياسة الخارجية الأمريكية وعلى أساسها تبني تحالفاتها وتحدد تناقضاتها. لهذا الاعتبار حركت أدواتها المحلية ونظمت انقلابا ضد “موراليس” الحاكم الأكثر جذرية في تجارب وصول الحركات الاجتماعية الوطنية إلى الحكم في أمريكا الجنوبية، مستغلة تعديله للدستور للترشح لدورة خامسة. لكن الانتخابات السابقة لأوانها أوصلت حزبه ورفاقه في “الحركة من اجل الاشتراكية” إلى الأغلبية النيابية والى كرسي الرئاسة، وهاهي الولايات المتحدة تستبق تصويت الشعب البوليفي في العام القادم والتي عبر “موراليس” عن ترشحه إليها، وهو المسنود من قبل قطاع مهم من الشعب وخاصة من السكان الأصليين الذين ينتسب إليهم، حينها خرج قائد الجيش عن صمته وصرح أنه سيعتقل الرئيس الأسبق إن تقدم للترشح، وهو ما قابلته السلطة بقرار عزله يوم 25 جوان الماضي. لكنه تحرك صحبة جزء من قيادة الجيش للانقلاب في حركة بهلوانية استحضرت مجمل تاريخ جنوب القارة وبوليفيا بالذات التي عاشت 190 انقلابا منذ استقلالها سنة 1852، لكن شعبها المتيقظ تحرك بالسرعة المطلوبة ومثلما أعاد شعب فنزويلا “شافيز” إلى الحكم قي ظرف ساعات بعد أن تم اختطافه من قبل عسكريين سنة 2002، هاهو الرئيس “آرسي” يبقى في مكانه محاطا بآلاف الجماهير التي تنادت إلى “ساحة موريو” وأجهضت انقلابا كان سيدخل البلاد في نفق جديد في ظل وضع اقتصادي صعب مست انعكاساته الاجتماعية القدرة الشرائية للشعب.
الولايات المتحدة صانعة الانقلابات
لا يختلف عاقلان في بوليفيا وفي العالم حول ضلوع الامبريالية الأمريكية في هذه المحاولة الانقلابية، فقبل عشرة أيام من المحاولة، استدعت السلطات البوليفية القائمة بالأعمال الأميركية في لاباز “ديبرا هيفيا”، إلى مقر وزارة الخارجية للتنبيه عليها ولفت انتباهها إلى أن تصرفات سفارتها تعتبر “تدخلاً في الشؤون الداخلية لبوليفيا”. وفي 13 جوان الماضي وجه وزير الاقتصاد البوليفي اتهاما صريحا إلى سفارة الولايات المتحدة بالتحضير “لانقلاب ناعم” ضد حكومة “آرسي”. والأكيد والواضح أن كلمة السر تحوم حول “الليثيوم”الذي يعتبر محور صراع بين الاحتكارات الأمريكية التي ظلت تضع يدها لعقود عليه وعلى مجمل الثروات الباطنية والطبيعية لبلدان أمريكا الجنوبية، وبين الاحتكارات الزاحفة من الشرق أي من روسيا والصين والتي تهدد جديا النفوذ الأمريكي في حديقته الخلفية. إنّ الصراع بين هذه الأقطاب أصبح يمسح كل مناطق العالم وخاصة التابع منه من أجل تأبيد الهيمنة أو تعويضها بأخرى. كما أن موقف نظام بوليفيا مثل أشقائه في فنزويلا وكولومبيا والشيلي من العربدة الصهونية و الإجراءات المتخذة ضد الكيان الصهيوني فضلا عن المواقف المشرفة في الفضاءات والمؤسسات الدولية، هي أيضا من بين أسباب الانتقام من هذه الأنظمة الوطنية.
إن مصلحة الشعب البوليفي لن تكون إلا بتمسكه بمكاسبه وتعميقها وضرب نفوذ الطبقات والأجهزة والدوائر الرجعية والتابعة، وذلك في اتجاه خيارات وطنية اجتماعية اشتراكية عميقة تستأصل الاستغلال والهيمنة والفساد وتقيم اقتصادا وطنيا مستقلا يوجه لخدمة الشعب وطبقاته التي عانت الحرمان لقرون.