بقلم جيلاني الهمامي
أجرت جريدة “لوبوان” Le Point الفرنسية بواسطة مؤسسة ناشئة Legalstart سبرا للآراء في أوساط أصحاب رأس المال ورؤساء المؤسسات في فرنسا لرصد مواقفهم بخصوص الدور الثاني للانتخابات التشريعية في فرنسا يوم 7 جويلية الجاري.
85 % من العينة المستجوبة هم أصحاب مؤسسات صغرى ومتوسطة تشغّل أقلّ من 10 أجراء نصفهم عبّر عن حيرة فيما يخص اختيارهم في هذا الدور الثاني، ومع ذلك فإن ثلاثة أرباعهم (74.9 %) يعتقدون أنّ التجمّع الوطني RN (أقصى اليمين) سيفوز بهذه الجولة من الانتخابات ويرى نصفهم، أنه إذا صحّ توقعهم هذا وشكل اليمين حكومته، ستتدهور أوضاع مؤسساتهم في مجال المنافسة الخارجية وثقة المستثمرين والولوج إلى التمويلات والقروض ونمو مؤسساتهم ورساميلهم بصفة عامة.
في المقابل من ذلك أكثر من ربع هؤلاء (27.9 %) يأملون في تأثير إيجابي في مجالات الأداء على الشركات وتشريعات الشغل. وهو ما يدفعهم إلى التصويت لصالح حزب “التجمع“.
تعتبر نتائج سبر الآراء هذه تكملة لعمليات أخرى سبقتها تم نشرها أيام 20 و21 جوان الماضي وتهدف إلى رصد نوايا التصويت في هذا الدور الثاني لدى شريحة مهمّة في المجتمع الفرنسي، أصحاب المؤسسات. ويتضح من هذه الدراسة أن 46 % من المستجوبين مع حصول “التجمع الوطني” RN على أغلبية تخوّل له تشكيل الحكومة كضامن لمستقبل “المؤسسة” رغم أن 56 % منهم يحذون أن يكون هناك سلطة مضادة un contre-pouvoir عن طريق تعديل موازين القوى rééquilibrage des forces في الدور الثاني للحفاظ على استقرار الوضع وتلافي حصول أي تغيير تخشاه “مؤسسة الإنتاج الصغيرة والمتوسطة“.
تجدر الإشارة إلى أن سبر الآراء السابق (قبيل الدور الأول من الانتخابات في عينة من رؤوس الأموال) كانت نتائجه لصالح ماكرون وكانت هناك رفض كبير للبرنامج الاقتصادي لحزب “التجمع الوطني” RN الذي اعتبروه وقتئذ غير ذي مصداقية. تلك النتائج تراجعت في العملية الأخيرة إلا أنها ظلت نسبيا مرتفعة بالنسبة إلى الشريحة العمرية 45/54 من أصحاب المؤسسات الذين بقوا أوفياء لـ“وسط اليمين” أي معسكر الرئيس ماكرون، بينما 43 % منهم من الشريحة العمرية 25/34 سنة اختاروا هذه المرة اليمين المتطرف مثلها مثل أغلبية مهمة (56%) من الشريحة الشبابية 18/24 سنة، ما يؤكد التقدم الملحوظ الذي أحرزه حزب أقصى اليمين في صفوف الشباب بشكل عام والمستثمرين أصحاب المؤسسات الشبّان بشكل خاص.
التوزيع الجغرافي والمهني يحمل هو الآخر دلالات كثيرة ويقدّم فكرة عن الميولات السياسية لمختلف جهات فرنسا وقطاعات الإنتاج التي ينتمي إليها أصحاب المؤسسات من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة.
فعلى المستوى الجغرافي يبقى الجنوب والجنوب الشّرقي معقلا تاريخيّا لليمين المتطرّف فيما يتصدّر “المعسكر الرئاسي” التّرتيب في المنطقة الباريسية الكبرى Ile de France. أما على المستوى المهني فإن قطاعات الفلاحة والصناعات التقليدية تنحاز إلى جانب “التجمع الوطني” فيما ينحاز القطاع الصناعي إلى ماكرون وقطاعات الاتصالات والمؤسسات الناشئة start-up إلى جانب الجبهة الشعبية الجديدة.
هذا ملخص ما كشف عنه سبر الآراء الذي أجْرتْه جريدة “لوبوان“. ويبقى المغزى العميق لتصويت هذه الشريحة من الناخبين الفرنسيين، أصحاب رأس المال، هو رؤية كلّ صنف من أصناف أرباب المؤسسات لمختلف المترشحين من زاوية مصالحهم الاقتصادية ومصالح مؤسساتهم. والمؤكد أن اختياراتهم، وهي في النهاية صورة عن اختيارات البرجوازية الفرنسية، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، مثْلها مثْل بقيّة الطّبقات الاجتماعية في فرنسا يحدّدها وقع الأزمة العامة التي لا تترك لهم مجالا واسعا من الحريّة في اختيار ممثليهم في الحكم من بين مختلف المشاريع الكبرى المعروضة عليهم في “السوق السياسية” الفرنسية هذه الأيّام.
الرأسماليون بشكل عام يتملكهم هاجس الخوف من “عدم الاستقرار” لذلك يصوّت جزء منهم لماكرون كتعبير عن النّزعة المحافظة والرغبة في بقاء الأمور على حالها. ويصوّت لفائدة ماكرون أيضا الشريحة العمرية ما فوق الستّين سنة، أكثر شرائح المجتمع، بصرف النظر عن المكانة الاجتماعية والدّخل والمستوى التعليمي، الحريصة على “الاستقرار“. ومن المفارقات أن نسبة كبيرة من الطبقات الاجتماعية السّفلى، العمال وأصحاب الدخل المحدود والعاطلون عن العمل والمهمّشون يصوّتون لليمين المتطرف أكثر من أي طرف آخر. وتتّفق أغلب الدراسات وعمليات سبر الآراء أن 40 % من العاطلين و38 % من أصحاب الدخل الضعيف (أقل من 1250 يورو) سيصوّتون لحزب “التجمع الوطني” المتطرف بدافع النّقمة على واقعهم البائس الذي يحمّلون ماكرون مسؤوليته. فاختيار هذه الفئات الاجتماعية الشّعبية لأقصى اليمين هو في وجه منه عقوبة لماكرون وفي وجه آخر هو نتيجة للمغالطات التي نشرتْها دعاية حزب “لوبان” وأحزاب اليمين المتطرف بصفة عامة حول المهاجرين الذين يجري إقناع الفرنسيين (وخاصة لمحدودي الوعي) بأنهم هم أسباب البطالة وحالة البؤس التي عليها الطبقات الشعبية في فرنسا.
ولم تتمكن القوى اليسارية والتقدمية الفرنسية بعد من دحض هذه الأكاذيب رغم أن “الجبهة الشعبية الجديدة” تقدمت في الأصوات خاصة في أوساط الشّباب حيث تأتي في المرتبة الأولى. بينما تأتي في المرتبة الثانية في تصويت الطبقات الشعبية والفئات المهمشة ومحدودي الدخل بـ 37 % من الأصوات. ربما كان من الممكن أن تكون هذه النسبة أعلى لو كانت الفترة التي سبقت موعد الانتخابات أطول إذ لا ينبغي أن ننْسى أن هذه الجبهة انبعثت أياما قليلة قبل يوم 30 جوان الماضي وفي وقت قياسي.
والأكيد، في ضوء المعطيات الكثيرة الواردة في عمليات سبر الآراء وخاصة التي أجرتها ايبسوس Ipsos (مؤسسة عمومية)، أن اختيارت النّاخب الفرنسي في ظروفه الاقتصادية والاجتماعية وفي مزاجه ومعنوياته الحالية مرتبطة بمدى رضاه عن وضعه الشخصي والعائلي. وقد جاء في دراسة ايبسوس أن الغالبيّة العظْمى من المستَجوبين عبّروا عن كونهم غير راضين وأن 50 % سيصوّتون لفائدة اليمين المتطرف.
علينا أن ننتظر نتائج يوم غد الأحد 7 جويلية حتى تكْتمل الصّورة ونتأكّد من الوجّهة التي ستتّجههَا فرنْسا والتي سيكون لها تأثير في أوضاع أوروبا ككل ومستقبلها وربما حتى العالم بأسره.
جيلاني الهمامي
تونس 6 جويلية 2024