بقلم علي البعزاوي
حال اتخاذ الرئيس الفرنسي ماكرون قرارا مفاجئا بحلّ الجمعية الوطنية الفرنسية والإعلان عن انتخابات تشريعية مبكّرة سارعت القوى اليسارية الفرنسية إلى توحيد صفوفها في إطار “الجبهة الشعبية الجديدة” رغم الخلافات التي تشقّ مكوناتها وخاصة حول الموقف من القضية الفلسطينية، وشاركت في هذه المحطة الاستثنائية لتفوز حسب النتائج الأولية (الدور الأول) بـ29 بالمائة من الأصوات وحلّت في المرتبة الثانية بعد قوى اليمين المتطرف” التجمع الوطني” وحلفائه (34 بالمائة من الأصوات) متقدّمة على تحالف ماكرون “معا” الذي حصل على نسبة 22 بالمائة من الأصوات، وعلى “الجمهوريون” الذين حصلوا على 10 بالمائة من الأصوات. أما في الدور الثاني، وعلى خلاف ما كان ينتظره عديد المتابعين، فقد حلّت الجبهة الشعبية، بقيادة” فرنسا الأبيّة” في المركز الأول، يليها تحالف ماكرون، لتحلّ كتلة “التجمّع الوطني” اليميني المتطرف في المرتبة الثالثة.
سلوك ينمّ عن حسٍّ سياسي متطوّر
ما يشدّ الانتباه هو سرعة تحرّك القوى اليسارية الفرنسية الذي يعكس حسّا سياسيّا متطوّرا ووعيا بخطورة اللحظة في ظلّ تنامي حظوظ القوى الفاشية بالسيطرة على الجمعية الوطنية (البرلمان) وتشكيل الحكومة المرتقبة.
النتائج الحاصلة في هذه الانتخابات تبوّئ القوى اليسارية الفرنسية منزلة متقدّمة في المعركة ضدّ القوى اليمينية المتطرفة. ولأول مرة ترتقي هذه القوة الجديدة الصاعدة بقيادة حزب “فرنسا الأبيّة” إلى هذه المرتبة المتقدمة وتصبح أحد طرفي الصراع الأساسيين على الحكم بعد أن كانت طيلة عقود من الزمن مجرّد قوى ومجموعات معارضة تكتفي بتسجيل المواقف والتصويت ضدّ القرارات المتّخذة من طرف الأغلبية اليمينية.
الاستقطابات القادمة ستصبح بين قوّتين جديدين، والفرنسيون سيتصرّفون مستقبلا على قاعدة هذا الواقع الجديد، وسيجدون أنفسهم مجبرين على الاختيار بين اليمين واليسار وليس بين اليمين المتطرف والآخر التقليدي مثلما جرى في السابق. وهذه مسألة مهمة ستضع القوى اليسارية إن عاجلا أم آجلا على طريق الحكم بعد الإخفاق المنتظر لتحالف اليمين المتطرف في معالجة القضايا الأساسية للمجتمع الفرنسي. هذا الإخفاق لن يتأخر كثيرا وسيتأكد عمليا بعد أن تنقشع كل الأوهام حول هذه القوى التي لم يجرّبها الفرنسيون في الحكم ولم يذوقوا مرارة قراراتها وخياراتها المدمرة.
هل تستلهم القوى اليساريّة التونسية الدّرس؟
مما لا شك فيه أنّ التجربة اليسارية الفرنسية ستكون لها تداعيات على الشأن الوطني التونسي، وربما تستفزّ النتائج المحقّقة في فرنسا القوى اليسارية والتقدمية في بلادنا وتضعها أمام سؤال استراتيجي مهم : “أيّ دور للقوى اليسارية والتقدمية حول ما يجري حاليا في تونس؟”
الاستقطابات الرئيسية مازالت بين قوى اليمين: الشعبوية الحاكمة من جهة، والعائلة الدستورية/التجمعية من جهة ثانية، وجبهة الخلاص الوطني بقيادة حزب حركة النهضة من جهة ثالثة.
والأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تستفحل وصعوبات الحياة تزداد يوما بعد آخر ممّا يجعل الانفجار الاجتماعي منتظرا في أيّ لحظة كردّ فعل على تدهور الأوضاع المعيشية الحياتية. وهذه مسألة عادة ما تكون عفوية لا ترتبط بالضرورة بقرارات تتّخذها الأحزاب أو المنظمات رغم دور هذه الأخيرة في تنشيط ودعم الحراكات المطلبيّة.
والحقوق والحريات، المكسب الأساسي والوحيد لثورة الحرية والكرامة، في خطرّ. وكل المنظمات والجمعيات والأحزاب وكل فئات الشعب التونسي من معطّلين وعمال وفلاحين وصحافيين ونقابيين ونساء وشباب ومثقفين ومبدعين ونشطاء، بصدد التضرّر من المرسوم 54 سيّء الذكر، وهناك مخاوف جدّية من العودة إلى مربّع الدكتاتورية.
الانتخابات الرئاسية على الأبواب (6 أكتوبر القادم ). وهو موعد يتطلب موقفا موحدا من هذه الانتخابات وقابلا للتنفيذ والتّأثير على نطاق واسع حتى لا يستغلّها النظام القائم لتثبيت شرعيته.
ماذا تحتاج تونس؟
كلّ هذه الملفات، وحتى تتمّ معالجتها معالجة جدّية تخدم في النهاية مصالح الأغلبية الشعبية وتعيد الأمل في تحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي وتضع حدًّا للاستقطابات اليمينيّة المغشوشة ولخياراتها اللاوطنية واللاشعبية التي غرقت فيها البلاد منذ 1956 إلى اليوم، بحاجة إلى منظومة جديدة تستجيب لانتظارات الشعب التونسي ولمطالبه المزمنة التي لخّصها شعار الثورة التونسية “شغل حرية كرامة وطنية”. وحتى لا تكون هذه المنظومة الجديدة مغشوشة كسابقاتها لا بدّ أن تكون يسارية الهوى، ديمقراطية، شعبية، اجتماعية، تقدمية، وطنية. وهذه ليست مسألة ميكانيكية، بل تتطلب عملا مضنيا وجهودا جبّارة أوّلًا بين القوى الحزبية والمدنية المعنية بهذا المشروع حتى تبلوره وتضعه على سكّة التنفيذ وفق خطّة متفق بأنها، وثانيا تجاه الفئات الشعبية من عمال وفلاحين وشباب ونساء وأُجراء وحرفيّين وبحّارة وأصحاب مؤسّسات صغرى ومتوسطة وغيرهم. هؤلاء جميعا متضرّرون من الخيارات التي فرِضت عليهم، ومن حقّهم المساهمة في بلورة البديل المنقِذ حتى يصبح بديلهم.
إنّ هذه الاستحقاقات هامة وتتطلب مبادرات وقرارات جديّة حتى تنطلق القوى اليسارية والتقدمية في عملٍ مشترك تتّفق على مضامينه وأشكاله وتنطلق في العمل، لتمرّ من حالة المجموعات الصغيرة الرافضة، المندّدة، المتباينة (…الخ) إلى قوة تأثير حقيقية داخل المجتمع.
ليس هناك مبرّرات جدّية لملازمة الصمت والبقاء على الرّبوة في مسألة مصيريّة رغم ما شاب التجارب السّابقة من صعوبات وأزمات. إنّ تجربة الجبهة الشعبية في تونس، على سبيل الذكر لا الحصر، لم تكن فشلا مطلقا ولا نجاحا مطلقا. والمطلوب الاستفادة منها للانطلاق من جديد على أُسُس سليمة وبنّاءة.