الرئيسية / رأي / مهمة توحيد اليسار في تونس: المعنيّون بها، أدواتها وأهدافها المباشرة والبعيدة (الجزء الأول)
مهمة توحيد اليسار في تونس: المعنيّون بها، أدواتها وأهدافها المباشرة والبعيدة (الجزء الأول)

مهمة توحيد اليسار في تونس: المعنيّون بها، أدواتها وأهدافها المباشرة والبعيدة (الجزء الأول)

بقلم علي بنجدو (*)

سيتضمن هذا المقال في بنائه المنهجي وتتابع لحظاته التحليلية ثلاثة مستويات تحليل أساسية يمكن اختزالها في ثلاثة أسئلة محورية/مركزية:
لماذا العودة إلى مسألة توحيد اليسار التونسي؟
من هم “المعنيون” سياسيا وطبقيا بمهمة توحيد اليسار؟
الرهانات السياسية والاجتماعية المعلقة على توحيد اليسار آنيا واستراتيجيا؟

مقدمة لا بدّ منها:

كانت مسألة توحيد اليسار التونسي رهانا إشكاليا قائما في محطات مهمة من تاريخ اليسار المعاصر. وقد شكلت هذه المسألة،على تعدد وجوهها، مدارا للتطارح النظري والنقاش السياسي منذ تأسيس منظمة آفاق ووضعيات التذرر والانقسام الخطي/السياسي اللاحقة. وإذا كان ثمة في التاريخ مناسبات سياقية تخللتها دعوات متكررة لتجاوز حالة الانقسام فإنّ جبهة 14 جانفي بعد ثورة 17-12 / 14-01 (وتجربتي الجبهة الشعبية 1 والجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة 2) كانت هي الإطار الزمني والسياق السياسي اللذان أخذت فيهما مسألة وحدة اليسار التونسي منحى جديا اقتضته بصرامة طبيعة الأحداث والتحولات السياسية حيث لم يكن من الممكن لليسار التونسي بكل مكوناته التغاضي عن الإمكانات المتاحة سياسيا وتنظيميا واستراتجيا لتشكيل قطب يساري يعبّر عن ذاته في هوية سياسية وبرنامجية محددة ويعكس انتظارات فئات وشرائح اجتماعية/طبقية واسعة علاوة على مناضلي اليسار على تنوع تجاربهم وانتماءاتهم الخطية.
في هذا السياق مثلت تجربة الجبهة الشعبية، التي امتدت لأكثر من سبع سنوات،حالة غير مسبوقة (على الأقل في المنطقة العربية وإفريقيا) في طبيعة مهامها، وبنائها التنظيمي/الهيكلي وعمقها الطبقي… هذه التجربة كانت تحمل في داخلها حالة مفارقة سياسية بين الإمكانات المطروحة للاستمرار في الزمن من جهة وتوجّس مكوناتها من انتهائها بانتهاء مهامها المفترضة توافقا مع ما تقتضيه طبيعة البناء الجبهوي المرحلي من جهة ثانية علاوة على تعدد مكوناتها، خلفياتها ومرجعياتها النظرية والتاريخية وتمثلاتها المتباينة لفهم العمل الجبهوي، أي بمعنى أدق الاختلاف بين أن تكون الجبهة منطلقا وأفقا لبناء هوية حزبية سياسية وبين أن تكون الجبهة إطارا سياسيا-تنظيميا يحسن التعامل مع التنوع الهووي الحزبي ويراعي حدود الاختلاف والاتفاق والمشترك السياسي تلاؤما مع طبيعة اللحظة أو الحالة السياسية.
ورغم أنّ الجبهة تفككت بالنهاية في أدق لحظات المسار الثوري وفي وضعية إطباق قوى الالتفاف والثورة المضادة على شعارات الثورة ومهامها الآنية والاستراتيجية وصعود الشعبوية إطارا جديدا للحكم الاستبدادي بنفس الأدوات والمضامين والخيارات الليبرالية القديمة في ما يشبه عملية السطو على مكاسب الثورة (على قلتها)، رغم ذلك فإنّ انحصار فعل اليسار لم يكن لينهي الأمل في إعادة بناء هذا اليسار على قاعدة المشترك والمهام المطروحة:  السيادة الشعبية، العدالة الاجتماعية وضمان الحريات العامة والفردية.
ولأنّ تقييم أداء الجبهة قبل تفككها وبعده كان دائما معطى حاضرا في عقل مناضليها ولدى مناصريها، وإن بدرجات متفاوتة على قدر حرص هذا الطرف أو ذاك على استمرار الجبهة ونجاعة فعلها السياسي فإنّ هذا التقييم من جهة مقابلة سيظل موضوع خلاف سواء في تحديد أسباب تفكك الجبهة وانقسام مكوناتها أو في باب تحميل المسؤوليات أو في تحديد النتائج السياسية التي استتبعت هذا التفكك. ومن البداهة القول دون تفصيل أكثر في الموضوع أنّ أية محاولة جادة لتوحيد اليسار من جديد ستقف بطريقة أو بأخرى على هذا التقييم تجاوزا لمواطن السلبية في التجربة استئناسا بما كان إيجابيا وناجعا فيها من جهة مجال/حيز فعلها السياسي الجماهيري واستقلالية مواقفها ونضج طرحها وإجاباتها السياسية وعناصر خطابها وبنائها التنظيمي…

  1. لماذا العودة إلى مسألة توحيد اليسار التونسي الآن؟

ليست العودة إلى مسألة توحيد اليسار عودة مقصودة لذاتها أو مجرد تطارح فكري معزول عن حاضنته الاجتماعية والسياسية وإنما هي ضرورة تعكس حالة تفاعل مع المقتضيات الموضوعية لمرحلة سياسية-موضوعية آنية فارقة يمكن اختزالها في معطيين أساسيين: المعطى الأول هو التفكير جديا في إعادة بناء اليسار في ظل وضع سياسي معقد يتسم بصعود واستحكام نظام استبداد جديد شعبوي-ماضوي في شكله السياسي وخلفياته الأيديولوجية من جهة وليبرالي في خياراته الاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية. أمّا المعطى الثاني فهو الوضع العالمي الراهن الذي يتميز في جزء من ملامحه العامة بإحياء التعددية القطبية (الليبرالية) استتباعا لتقسيم جديد لمجالات نفوذ الإمبرياليات القديمة والجديدة بعد حرب روسيا على أوكرانيا والسيطرة على أسواق جديدة للاستثمارات وما يرتبط بذلك من توقيع لاتفاقيات التبادل والاقتراض… يضاف إلى ذلك الهزة السياسية والنفسية الكونية التي أحدثها طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، ليس فقط من جهة تبيّن الطبيعة النازية الإجرامية للكيان الصهيوني وحالة التواطؤ والإسناد العسكري والسياسي للولايات المتحدة الأمريكية والإمبرياليات التقليدية والجزء الغالب من أنظمة حكام العرب وإنما أيضا من جهة حالة التضامن الإنساني الأممي التي فاقت ما حدث في الحرب على الفيتنام والحرب على العراق… هذه المعطيات (ومعطيات أخرى متعلقة بأزمة البيئة والتضييق على الحريات وتراجع الدول عن دورها الاجتماعي وارتفاع تكاليف المعيشة والرفع في سن التقاعد…) أبانت عن قصور الديمقراطيات البرجوازية الكلاسيكية على إدراة الأزمات الاقتصادية المتتابعة وباتت تفقد بشكل تدريجي تحكمها في ثوابت الحياة السياسية لفائدة شعبويات صاعدة تختلط فيها وتتقاطع العصبيات الدينية والشوفينية والعنصرية والفاشية في خطاب يميني يتسم بالانغلاق ومعاداة الآخر. وغير بعيد عن تونس كانت فرنسا، (بعد ما حصل في إيطاليا من صعود لليمين) مثالا جديا على صعود وازن ليمين متطرف متسم على المستوى السياسي الايديولوجي بنزعة شوفينية عنصرية معادية للمهاجرين وللقضايا الإنسانية العادلة وحتى لثوابت الثورة الفرنسية ذاتها.
في مقابل الوضع المهدد بمزيد استحكام الخطاب السياسي اليميني-الشعبوي وصعود النزعات الشوفينية، في مقابل ذلك، ثمة بدايات لتشكل مشهد سياسي للمقاومة السياسية الديمقراطية والكلاسيكية ولثقافة حقوق الإنسان وتوسيع دائرة التضامن والإسناد والنضال الطبقي تمثلها تشكيلات يسارية متعددة براوفد وعناوين مختلفة يختلط فيها الاجتماعي والسياسي بالبيئي والثقافي… هذه المقاومة لم تتخذ فقط مضامينها وأهدافها أشكال الاحتجاج الكلاسيكية والمستحدثة في الشوارع والفضاءات بل عبرت عن نفسها حتى في المحطات الانتخابية وآخرها ما حصل في الانتخابات التشريعية الفرنسية حيث فاز اليسار الفرنسي بأغلبية المقاعد في وضع من الصراع المفتوح ضد اليمين بكل عناوينه السياسية.
الدرس المستخلص من هذا أنّ اليسار ما كان له أن يفوز ويحوز ثقة الفرنسيين بمختلف شرائحهم الاجتماعية المفقّرة والبرجوازية الصغيرة وشباب ونساء فرنسا بالإضافة إلى المهاجرين المقيمين لو لم يكن موحدا في الجبهة الشعبية الجديدة ولو لم يجعل اليسار الفرنسي من إنقاذ المجتمع الفرنسي هدفا مركزيا له من مخاطر اليمين ونزعات الانغلاق الشوفيني… الجبهة الشعبية الجديدة انتصرت لأنها قدمت برنامجا واقعيا يستجيب لطموحات وانتظارات الطبقات الشعبية في الدعوة إلى نظام ضريبي عادل ومنصف وإلى الزيادة في الأجر الأدنى والتخفيض في سن التقاعد إلى ستين سنة إضافة إلى إيجاد حلول عاجلة لوضعية المهاجرين في مواجهة الاعتداءات العنصرية…
انتصار اليسار الفرنسي هو مقدمة في الزمن وفي الامتداد الجغرافي والسياسي لانتصارات أخرى ليس فقط في أوروبا وإنما في كثير من دول العالم… ولن يكون ذلك في المطلق بعمليات إسقاط آلي ولا تكريسا لما حصل في بعض من التاريخ تحت عنوان “المركزية الشيوعية الأوروبية” وإنما استجابة لشروط جديدة للمقاومة والنضال وواقع الصراع الطبقي حيث أصبحت الشعبوية خيارا جديدا للنظام الليبرالي المتوحش في جزء مهم من دول العالم وأصبحت مقاومة هذا المارد الجديد مهمة الإنسانية أينما كانت.
إعادة توحيد اليسار في تونس تضعنا أمام مهمات أكثر تعقيدا وتركيبا بالنظر إلى اعتبارين أساسيين: اعتبار أوّل يتعلق بطبيعة الوضع السياسي في تونس حيث زاد استحكام الشعبوية واتسع مجال نفوذها لتتجاوز أنها مجرد نظام يحكم لتصبح ثقافة “اجتماعية” سائدة تقوم على تجريم السياسة والسياسيين والأحزاب دون تمييز يستوي فيها صديق الشعب مع عدوه. إلى جانب تسيد خطاب سياسي رسمي قائم على التخوين والتسويق لوهم المؤامرة والتكالب على السلطة مع ما يرتبط بذلك من اتهامات وملاحقات قضائية واعتداء على الحريات وحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية ونسف للدور الاجتماعي للدولة وارتفاع جنوني للأسعار وتجميد للأجور وفساد للإدارة وانتشار لمظاهر الزبونية والمحسوبية والمحاباة…
الاعتبار الثاني يتأسس بداهة على أنه من غير الممكن تعقل الأزمة المركبة في تونس وتمثل عناصرها وتجاوزها ما لم تتوفر الأداة السياسية والتنظيمية المثلى وهاهنا تقع المسؤولية على اليسار راهنا ومستقبلا باعتباره الجهة السياسية الموكول لها التصدي لهذه الأزمة وتقديم الإجابات والبديل الواقعي/الناجع القابل للتسويق الشعبي والتنفيذ… واليسار بهذا المعنى لن يكون فحسب مجرد تجميع للمكونات التاريخية لليسار التونسي بل يجب أن يكون أيضا إطارا سياسيا واسعا منفتحا على كل الطاقات البشرية والكفاءات، أو بمعنى أدق الانتقال بوضعية اليسار من يسار النخبة البرجوازية الصغيرة إلى وضعية اليسار الطبقي/الاجتماعي حيث تتم تعبئة الجماهير حول مطالبهم الاجتماعية ويتمرسون على فهم واستيعاب معنى المواطنة الحرة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة…
توحيد اليسار يجب أن يكون على قاعدة هوية سياسية طبقية واضحة لا لبس فيها حيث لا إمكان لتسلل الأجسام الأخرى الداعمة لنظام الحكم، أي تلك العناصر أو الأحزاب التي سلبتها أطماعها الانتهازية والدخولية إمكان الانتساب لليسار أو ادعاء تمثيله بأي حال من الأحوال…
يتبع…

الجزء الثاني من هذا المقال سيكون موضوعه: من هم “المعنيون” بتوحيد اليسار بالإضافة للأهداف من توحيد اليسار في تونس.

(*) مناضل يساري مستقل

إلى الأعلى
×