بقلم علي البعزاوي
الانتخابات هي اختيار حرّ يقوم به المواطنون الأحرار تحت إشراف هيئة مستقلة لاختيار من يمثلهم في السلطة. وأفضل الانتخابات على الإطلاق هي تلك التي يكون فيها التنافس على برامج وسياسات وخيارات حتى يصوّت الناخب لهذا المرشح أو ذاك على هذه القاعدة، ويمكنه لاحقا أن يتابع الفائز ويحاسبه على مدى التزامه ببرنامجه الانتخابي الذي أطلقه خلال حملته. وهذا يتطلب إطارا قانونيا وسياسيا ملائما للقيام بهذا الدور.
الانتخابات شبيهة بمقابلة كرة قدم يقدّم فيها كل فريق أفضل ما عنده من جمل كروية ويسجل أكثر الأهداف لضمان الفوز. ويشترط في هذه المباراة حتى تكون نتائجها مقبولة أن يكون “الحَكم” محايدا ونزيها وأن يكون “الطقس” ملائما إذ لا يمكن إجراء مباراة تحت وقع الأمطار الغزيرة أو الثلوج أو الرياح العاتية، وأن لا يكون هناك أيّ تهديد من أي نوع حتى يخوض كل فريق المباراة متحرّرا من كل الضغوطات والقيود.
الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة المنشودة لها إذن شروطها وتتمثل، مثلما أكّد حزب العمال من خلال عديد النصوص والبيانات الصادرة عبر صفحته الرسمية أو في موقع جريدة صوت الشعب أو من خلال مداخلات الرفيق الأمين العام في وسائل الإعلام، في ما يلي :
- ضمان الحقّ في الترشح
- توفر مناخ عام ملائم وحالة استعدادٍ لدى الجماهير الشعبية للمشاركة
- هيئة إشراف على الانتخابات محايدة ومستقلة
- إعلام حرّ ومهني يقف على نفس المسافة من كلّ المترشحين
- شروط قانونية موضوعية تسهّل المشاركة ولا تضيّق الخناق على الترشّح
هذه الشروط غير متوفرة
لقد أكد حزب العمال أن الشروط المذكورة أعلاه، وهي الأساس الأدنى لكل انتخابات ديمقراطية، غير متوفرة. فالحق في الترشح غير متاح للجميع وغير مضمون ذلك أن العديد ممّن عبّروا عن مواقف ناقدة للنظام القائم أو أعلنوا عن نيّتهم في الترشح للانتخابات الرئاسية وجدوا أنفسهم مطلوبين لدى العدالة دون أن توجَّه لهم تهم جدّية، وفيهم من طالت مدة إيقافه وأُبقي عليه في السجن خارج المدة القانونية (الموقوفون في ما عُرف بقضية “التآمر على أمن الدولة”).
وهيئة الانتخابات معيّنة من طرف الرئيس وليست محلّ توافق ولم تخضع للانتخاب ولا يمكنها منطقيا أن تكون محايدة، خاصة وأنها فوق المتابعة والمحاسبة القانونية.
وهناك ضغوط تمارس على الإعلام الخاص والعمومي حتى لا يتناول القضايا الاجتماعية والسياسية الحارقة ولا يتداول بشأن القضايا الجارية في المحاكم. وفي هذا السّياق لم يستدع الإعلام بعض من عبّروا عن نيّتهم الترشح لمعرفة برامجهم وأهدافهم، في حين صرّحت هيئة الانتخابات وبسرعة البرق أنها شرعت في مراقبة الفضاء العام في كل ما له علاقة بالانتخابات. ويعتبر الصحافيون أن المرسوم 54 هو سيف مسلط على رقاب الإعلاميين والصحافيين الذين زُجّ بالبعض منهم في السجن بموجب هذا المرسوم. وهم يطالبون بإلغائه والعودة إلى المرسومين 115 و116 لمحاسبتهم إن كانت هناك تجاوزت. أما وسائل الإعلام العمومية فلا تستدعي المعارضين وممثلي المنظمات المستقلة والأحزاب، وهي حكر على ممثلي النظام القائم رغم أنها مموّلة من الضرائب التي يدفعها المواطن، وهي مطالبة بتمرير كلّ أطياف المجتمع.
أما الشروط القانونية فهي شروط صعبة وغير متاحة للمترشحين، فأعضاء المجلس التشريعي تابعون للنظام القائم وليس هناك من يستطيع تزكية مرشّح معارض للرئيس الحالي، وكذلك الشأن لرؤساء المجالس المحلية الجهوية. أمّا التزكيات (10 آلاف تزكية) فهي صعبة المنال بالنظر إلى الشروط الموضوعة في القانون وليس من السّهل الحصول عليها خاصة في ظلّ المناخ الحالي المتّسم بالانغلاق والمنع والتّضييق والخوف.
أمّا المواطن الغلبان فهمّه توفير أسباب العيش الكريم وهو لا يشعر بأن هناك علاقة جدّية بين هذه الانتخابات وبين مصيره وإمكانيّة تحسين أوضاعه الحياتيّة ولا يعتقد أن هذه الانتخابات ستغيّر مجرى حياته وحياة أسرته الغارقة في التداين والتي تكتوي بنار الأسعار وتتذمّر من شُحِّ وغياب المواد الحياتية.
المقاطعة هي الحل
بالنظر لكلّ هذه الأسباب وغيرها كثير يرى حزب العمال أن الحلّ المناسب والعقلاني هو مقاطعة هذه الانتخابات تصويتا ومشاركة لأنها انتخابات معلومة النتائج مسبقا ولا تتوفر فيها الشروط الضرورية الدنيا للانتخابات النزيهة والشفافة والديمقراطية. وكل مشاركة فيها تُعتبر تشريعا للنظام القائم وإضفاء نوع من الشرعية على انتخابات هي في الحقيقة والواقع لا تتوفّر فيها.
إن مقاطعة صناديق الاقتراع على نطاقٍ واسعٍ من شانها أن تطرح التّساؤلات حول أحقيّة هذه الانتخابات ومدى شرعيّة نتائجها وتفتح الطريق لاحقا على إمكانية، بل أحقية المطالبة بتغيير الواقع، إمّا عبر انتخابات أخرى حرّة ونزيهة وشفافة، أو من خلال هبّة شعبية منظمة ومؤطّرة تزيح كل المنظومات التي فشلت في حكم البلاد وترسي منظومة جديدة ديمقراطية وشعبية تكرّس سيادة الشعب على ثروات بلاده وقراره الوطني المستقل وتُرسي عدالة اجتماعية تعيد الاعتبار للمهمّشين والمقصيّين في المجتمع.
إن الشّرط الضروري الأوّلي للمضيّ في هذا الاتجاه هو المقاطعة الواسعة والواعية لهذه الانتخابات.
انتخاباتنا وانتخاباتهم
إن ما يجري من حولنا في مختلف دول العالم، أو على الأقل في الكثير منها، يختلف جذريّا عمّا يحصل في بلادنا. هناك تجري الصراعات حول البرامج والسياسات وكلّ جهة/طرف مترشّح يضع على الطاولة برنامجه وجملة الوعود التي سيعمل على تنفيذها مع تحديد السقف الزمني لذلك.
وعلى ضوء هذه الوعود والأهداف المُراد تنفيذها يتفاعل الشارع إن سلبًا أو إيجابًا مع هذه البرامج. ولعل الشعارات والوعود المبنيّة على تشخيصٍ لواقع المجتمع الفرنسي خلال الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة، على سبيل الذكر لا الحصر، ساهمت في تصعيد القوى اليسارية ومعاقبة اليمينيْن، التقليدي والمتطرّف. وهذه النتائج لم تأتِ من فراغ بل لوجود إعلام حرٍّ مفتوح لكل الفعاليات، وحقوقٍ مضمونة (حرية الترشح والتعبير…) واهتمامٍ من الناخبات والناخبين شعورا منهم بأن هذه الانتخابات مصيرية ولها تأثير كبير على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. لذا كانت مشاركتهم مكثّفة واختاروا عن وعي ودراية من رأوه جديرا بالحكم وقادرا على معالجة معضلات المجتمع.
كما أن محاولة الانقلاب العسكري التي جرت في بوليفيا منذ أسابيع وقع إسقاطها من طرف الشارع الذي أصرّ على تثبيت الرئيس المنتخب الذي وقع اختياره في انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة في السلطة. وعلى العكس من ذلك سكتت الجماهير الشعبية في النّيجر عن عزل وإيقاف الرئيس السابق الذي مرّ إلى الحكم من خلال انتخابات مزوّرة وبإسنادٍ خارجي.
إن عديد التجارب في العالم تجعلنا نخجل ممّا يقع اليوم في بلادنا بعد ثورةٍ قطعت دابر الاستبداد وأرست الحقوق والحريات، ومن ضمنها الحق في الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، رغم محاولات المنظومات التي تعاقبت على الحكم بعد 2011 تلويث هذه الانتخابات والتّأثير على نتائجها بوسائل مستجدّة لكنها غير مشروعة (التأثيرات الخارجية، المال السياسي الفاسد، الإعلام الأجور، توظيف الدين…).
الشعب التونسي مُطالبٌ بقول كلمته في هذه الانتخابات المهزلة. وعلى النُّخب الديمقراطية والتقدّمية لعب الدور المُناط بعهدتها والعمل على إقناع أوسع الجماهير بضرورة وأهمية خلق فراغ حول صناديق الاقتراع كمرحلة ضروريّة للإعداد لتغييرات عميقة قادمة.