بقلم علي الجلولي
كنا تطرقنا في مقالنا في العدد الفارط لمشكل المياه في تونس الذي يتمظهر اليوم في تصاعد العطش في كل جهات تونس بحكم تناقص الاحتياطي من المياه سواء في السدود، أو جوف الأرض، وقد انتهينا إلى أن عدة عوامل متظافرة ومركبة تفسر هذه الظاهرة الكونية. على أن الإشارة إلى كونيتها لا تعفي الدولة وخياراتها وسياساتها من المسؤولية المباشرة على عطش شعبنا الذي يبلغ ذروته في قائظة هذا الصيف، إذ يعرف ماء الحنفيات الذي بينت عديد الأبحاث العلمية المحلية والدولية عدم صلاحيته للشرب، الانقطاع المتواصل، وتتعلل وزارة الفلاحة وشركة المياه باعتماد نظام الحصص، لكن الوقائع المثبتة والمؤكدة تقول أن نظام الحصص لا يطال الأحياء المرفّهة والمناطق السياحية التي تعتبر نزيفا حقيقيا للثروة المائية في بلادنا، فيما يعاني القطاع الفلاحي من مشكل مزمن في المياه سواء لغياب المقاربة أو لسوء التصرف في المواد الشحيحة.
الماء كعائق في القطاع الفلاحي
يعتبر الماء شرطا أساسيا للنشاط الفلاحي سواء السقوي منه من خلال كميات مياه السقي، أو البعلي منه بضرورة توفر كمية محددة من التساقطات في فترات معينة من العام ومن الموسم الفلاحي. وتعاني بلادنا على العموم من تراجع كمية المياه الموجهة للنشاط الزراعي والتي لم تتجاوز 2038 مليون متر مكعب سنة 2020 ، وهي نسبة محدودة جدا ولا تتجاوز ثلث الحاجيات الفعلية للنشاط الفلاحي. ولئن كان مشكل المياه مشكلا عويصا تمتد آثاره الى كل القطاعات، فان القطاع الفلاحي تضاعفت أضراره بحكم ندرة المياه وتملحها وتلوثها، والندرة حكمت على بعض الأنشطة بالتراجع وحتى الاندثار، وحكمت على فئات واسعة من صغار الفلاحين بالتضرر والتفقير والنزوح أو التخلي عن النشاط الفلاحي، كما أن التملح والتلوث له آثار مدمرة على النشاط الفلاحي في حد ذاته أو على نوعية المنتوج الذي طاله التلوث والمرض سواء بحكم الجفاف أو بحكم نوعية المياه المستعملة.
ولئن يصل عدد السدود في بلادنا إلى 36 سدًّا، فان طاقة استيعاب الجمليّة الحالية لا تتجاوز 31% فقط، بما يعني ثقبا مائيا كبيرا في الحاجيات الأساسية سواء التي تهم شرب البشر أو مختلف الأنشطة وعلى رأسها النشاط الزراعي. لذلك فان تداعيات مشكل المياه تطال كل أوجه الممارسة الفلاحية في بلادنا، وفي مختلف الجهات شمالا وجنوبا. والواضح لدينا أن الدولة التونسية ليست لها سياسة مائية جدية لمشكل لا يتعلق بحاضر الشعب بل بمستقبله المنظور.
غياب السياسة المائية
في سبتمبر 2020 أصدرت اللجنة الاقتصادية في منظمة الأمم المتحدة الخاصة بأوروبا تقريرا دعت فيه الأقطار المغاربية الثلاثة ( تونس والجزائر وليبيا) لضرورة التشريع باتخاذ إجراءات فورية لإيقاف نزيف الخزان المائي الجوفي المشترك في الصحراء الحدودية للبلدان الثلاثة، وللعلم فان بلادنا لا يتجاوز نصيبها من هذا الخزان 7% فقط بما يعني أنها المعنية الأساسية بهذه الإجراءات التي دعا تقرير الأمم المتحدة أن تكون في إطار التعاون بين البلدان الثلاثة، لكن هذه الأخيرة وخاصة تونس بحكم التضرر الفادح لم تتحرك، علما وأن ذات التقرير وتقارير أخرى متطابقة أشارت إلى كون مشكل المياه سيتحول إلى معضلة حقيقية في أفق 2030 والمقصود بذلك هو حالة العطش الواسع إن لم يتم اتخاذ إجراءات استباقية من قبل الدولة. وفي يغاب سياسة مائية جدية تتضرر الفلاحة ضررا واسعا وكبيرا، الفلاحة بمعنى قوت الشعب وقفة استهلاكه الأساسية من الخضر والغلال…، وأيضا تضرر جهات وفئات بكاملها لعدم قدرتها على مجابهة هذا المشكل. وعلى سبيل المثال فان الجنوب هو الأكثر تضررا من مشكل المياه بحكم محدودية التساقطات التي لا تتجاوز كمعدل سنوي 100 مم بما يعني محدودية الاحتياطي الجوفي للمياه، وهو ما يواجهه فلاحو الجنوب الذين يتركز نشاطهم أساسا حول أنشطة سقوية تتطلب كميات وافرة من المياه (الواحات)، ففي مواجهة الطلب المتنامي وصل عدد الآبار العشوائية إلى 21290 بئر عميقة، يتركّز نصفها في ولاية قبلّي، وهو إضافة إلى كونه استنزاف لمائدة التي يصل استغلالها في جهة قبلي إلى 155% ويتجاوز في توزر 84% وفي قفصة 76% ، فهو تكريس لوضع مختل يتمثل في ربط التمتع بالمياه بالقدرة المادية، فالأغلبية الساحقة من الآبار العشوائية هي للفئات القادرة على تأمين المبالغ المالية لاستخراج المياه “خلسة”، وهو وضع أزم وضعية صغار وفقراء الفلاجين الذين تحرمهم ظروفهم المادية من استخراج المياه، إضافة إلى تضرر المائدة ونضوب كمياتها بما حكم على الدورة المائية العمومية في عديد الحالات بالتوقف، فعديد الواحات في جهة قبلي مثلا محرومة من مياه السقي لأكثر من عام رغم إيفاء الفلاحين بالتزاماتهم المالية إزاء الجمعيات المالية، وهو موضوع يسحق البحث والتقصي، وهو عنوان ودليل على عملية التدمير الممنهج التي تطال القطاع الفلاحي وتطال الفلاحين الفقراء والصغار.
الفلاحة التونسية والتدمير الممنهج
أكدت وزارة الفلاحة التونسية أن إنتاج بلادنا من الحبوب سجّل خلال موسم 2023 تراجعًا بنسبة 60% مقارنةً بالنتائج المُسجلة خلال السنة الماضية، علما وأن السنة السابقة هي بدورها سنة كارثية، ويطال التراجع أغلب المنتوجات الفلاحية، علما وأن بلادنا تكرّس خللا عميقا في رؤيتها وسياستها من خلال مواصلة التوجه لقطاعات تستنزف نصيبا وافرا من الاحتياطي المائي مثل قطاع القوارص في جهة الوطن القبلي، وهي كميات كان من الأجدى توجيهها نحو قطاعات أهم تستهلك نسبا مائية أقل وبمردودية اقتصادية أفضل، بما يؤكد غياب أي مقاربة جدية ، مثلها مثل التوجه لتحلية مياه البحر وتقديم ذلك على أنه الحل الجذري لازمة المياه في بلادنا وهي مغالطة أخرى من مغالطات نظام الحكم في تونس، فهذه التحلية مكلفة ونتائجها باهظة على البحر وعلى الفلاحة والشرب، بما يعزز القناعة لدينا أن المنظومة السائدة في تونس بحكم طبيعتها وارتباطاتها كرست خللا هيكليا في مجمل توجهات البلاد وفي المقدمة منها القطاع الفلاحي بما جعل شعبنا يأكل من وراء البحار، بل ويجوع مثلما يعطش وتعطش أرضه ونباته.