بقلم علي بنجدّو (*)
الجزء الثاني من هذا المقال موضوعه الإجابة عن سؤالين أساسيين: من هم “المعنيّون” بتوحيد اليسار؟ وما هي المهام المطلوب إنجازها استتباعا لهذه الوحدة المرجوّة؟
كنت في الجزء الأول من هذا المقال قد وقفت على الخلفيات السياسية التي تدفع إلى إعادة التفكير في مسألة توحيد اليسار التونسي كما الإحالة إلى الأسباب الموضوعية والذاتية (السياسية والتنظيمية) التي تجعل التفكير في هذا الأمر ذو راهنية قصوى من باب تغيير موازين القوى الاجتماعية والسياسية وإعادة تموقع اليسار والمراهنة على تغيير المشهد السياسي المحلي الموسوم بنفوذ، وطغيان الشعبوية حكما، ثقافة ومزاجا عاما.
هذا الجزء من المقال سيكون مفصلا في لحظتي بناء وتحليل متتابعتين:
- من هم المعنيون بمهمة توحيد اليسار وعلى أية قاعدة فرز سياسي؟
- المهمات السياسية المطلوب إنجازها آنيا (مرحليا) واستراتيجيا؟
1. من هم المعنيون بمهمة توحيد اليسار وعلى أية قاعدة فرز سياسي؟
في حكم البداهة أنّ مسألة توحيد اليسار بالمعنى الاجتماعي والسياسي الواسع ليست مجرد رغبة أو “نزوة” سياسية ذاتية/زعامتية عرضية أو محض مهمة سياسية صورية تقع على هامش التاريخ كما أنها ليست استحقاقا أيديولوجيا مفرغا من أية رهانات واقعية/عملية وإنما هي على نقيض ذلك مهمة سياسية طبقية تبنى على مثلث متشابك الوظائف والأبعاد: الأسس الأيديولوجية-الفكرية/البرنامج والمهمات (مع ما يرتبط بها من آليات وتقنيات الفعل السياسي المباشر) /الأهداف والرهانات… وهذا المثلث هو ذاته الأساس الذي تبنى عليه مهمة الفرز السياسي والإجابة عن سؤال “من يكون هذا اليسار المقصود؟”، هذا من ناحية أولى. أما من ناحية ثانية، فإنّ هذه المهمة بقدر ما هي استتباع للدينامية السياسية الراهنة في تونس حكما ومعارضة فهي أيضا استتباع في الزمن لماض سياسي لأحزاب وهويات سياسية متعددة لها تجاربها ورصيدها السياسي/النضالي على امتداد فترات متلاحقة من زمن حكم بورقيبة، مرورا بفترة حكم بن علي وانتهاء إلى بداية الثورة وما بعدها حين حكمت البلاد قوى الثورة المضادة ثم انتخابات 2019 وانقلاب 25 جويلية 2021 وحصيلة النكسات والهزائم والارتدادات السياسية الكارثية التي تبعت ذلك.
ومن باب اختصار التحليل والاكتفاء بما بعد انقلاب 25 ومعاينة حالة التمترس السياسي المرتبطة به تحت عناوين سياسية تبريرية مختلفة من جنس استجابة الانقلاب لشعارات الثورة والقطع مع العشرية السوداء واعتبار أنّ الانقلاب تعبير عن إرادة الشعب وضمانة للسيادة الوطنية وما شابه ذلك من تبريرات سطحية وانتهازية يعكس أغلبها أطماع المشاركة في الحكم بأيّ ثمن أو سذاجة سياسية في تمثل مخاطر الانقلاب ومآلاته ومحاولات جادة لتجذير المسار الثوري لنظام حكم ماضوي/سلفي/استبدادي… من هذا المنطلق وبناء على ما تقدم تكون الإجابة عن سؤال “من هم اليساريون المعنيون بمهمة توحيد اليسار الآن وهنا؟” مسألة للحسم الإيديولوجي-السياسي تقربنا من معنى وحدة اليسار…
عملية الفرز السياسي، حينئذ، تكون على قاعدة الموقف من انقلاب 25 جويلية وما تبعه من إجراءات سياسية بدءًا بحلّ البرلمان وحكم البلاد بسياسة المراسيم الأحادية المسقطة والمفروضة ثم إيقاف العمل بدستور 2014 وتنظيم استفتاء شكلي لكتابة دستور جديد وما تبع ذلك من انتخابات تشريعية ومحلية على قياس منظومة حكم لا تعترف بالفصل بين السلطات وتؤسس لنظام رئاسوي خارج مجال/حدود المراقبة والمساءلة القانونية… نظام حكم قائم على انتهاك الحريات وقيم المواطنة وخارج حدود/معايير الديمقراطية البرجوازية على هناتها وطابعها الشكلي… في هذا السياق حصل الفرز بين من زكّى سياسات الانقلاب واندمج فيها تحت مسمى المساندة النقدية من باب التثمين واعتبار أنّ بعضا من مهمات الثورة أنجزت بهذا الانقلاب بنهاية العشرية السوداء والذهاب خطوات مهمة في حسم مهمات السيادة الوطنية وما تبع ذلك من أوهام،… مساندة نقدية لا ترى في التضييق على الحريات والمحاكمات السياسية وترذيل الأحزاب ودور المنظمات الوطنية والجمعيات ذات التوجه التقدمي (الاتحاد العام التونسي للشغل، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان…) وفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية القديمة/الجديدة ورفع الدعم وتزايد حجم التداين الداخلي والخارجي، ورفض سن قانون لتجريم التطبيع… لا ترى في كل ذلك مؤشرات وأدلة إفلاس سياسي تام ومكتمل لسياسات الإنقلاب… هذا من جهة أولى، أما من جهة ثانية معاكسة/ضدية فإنّ الموقف السياسي الذي استشعر خطورة الانقلاب من القوى السياسية اليسارية الراديكالية والوسطية ومكونات المجتمع المدني والمنظمات والمجموعات الشبابية والمدونين والإعلاميين والنشطاء المدنيين الذين كانوا دائما على يسار السلطة، هؤلاء (على تنوعهم واختلاف مرجعياتهم الفكرية) تنبّهوا منذ لحظة الانقلاب، وإن بدرجات حرص متفاوتة، إلى ضرورة تكوين قطب سياسي أو معارضة سياسية مدنية على قاعدة أنّ المهام الديمقراطية كما المهام الوطنية/الشعبية وضمان الحدود الدنيا للمواطنة لا تنجز بالانقلابات وبأنظمة حكم تقوم على قوة المركزة ومركزة القوة بيد حاكم لا يقول بالفصل بين السلطات ولا بالعدالة الاجتماعية. هذه المعارضة الموسومة بغلبة المعطى اليساري عمقا وجذورا فكرية – سياسية ظلت إلى حدود اللحظة تراوح مكانها، فبقطع النظر عن ظهورها المناسباتي المتقطع في علاقة بالمحاكمات والدفاع عن الحريات ومساندة المقاومة الفلسطينية منذ 7 أكتوبر ومشاركتها في الاحتجاجات الاجتماعية والقطاعية الضيقة والعرضية في المكان والزمان، بقطع النظر عن ذلك فإنها لم تطرح بالجدية المطلوبة تأسيس كيان سياسي تعبوي موحّد يصهر طاقاتها المناضلة في مهام موحدة تصديا لتمكّن الشعبوية على مستوى الحكم وفي أفق بديل سياسي آخر مستقل عن قوى الثورة المضادة من بقايا الدولة العميقة إلى الإسلام السياسي وانتهاء إلى المشروع الشعبوي الحاكم الفعلي منذ انقلاب 25 جويلية 2021.
الفرز إذن، بناء على ما تقدم، في مهمة توحيد اليسار ليس مهمة موكولة على مستوى التفكير، الصياغة، البناء وضبط الأهداف على كل من هو محسوب في منطق “جغرافيا” التقسيمات السياسية المتدوالة على كل من يزعم أنه جزء من اليسار وتحديدا على من تورط منذ 25 جويلية في إسناد الانقلاب، تزكيته ومجاراته في ما بلغه الوضع الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي من تعفن واتساع لدائرة الاستبداد والتضييق على الحريات وإنما هو مهمة سياسية حصرية موكولة إلى مكونات اليسار التي لم تنخرط في مسار الانقلاب وتمتلك في الأدنى السياسي المطلوب رؤية وبرنامجا اقتصاديا، اجتماعيا وسياسيا للدفع باتجاه خلق قطب سياسي شعبي مستقل في توجهاته عن قوى الثورة المضادة سواء التي سبقت الانقلاب أو تلك التي عارضته سياسيا ولكنها تتماهى معه في الخيارات الاقتصادية الليبرالية والانضباط لهذا المحور أو ذاك إقليميا أو عالميا.
2. المهمات السياسية المطلوب إنجازها آنيا (مرحليا) واستراتيجيا؟
يمكن اختزال المهمات المطلوب إنجازها، بلورتها وضبطها (تبويبها منهجيا وزمنيا) في ثلاثة محاور أساسية يمكن تفصيلها لاحقا في مجموعة نقاط أخرى في علاقة بالبرنامج العام:
- السيادة الشعبية: بما تعنيه هذه المهمة المكثفة من مراجعة للاتفاقيات الاقتصادية والمالية وعدم انخراط للدولة التونسية في سياسة المحاور الامبريالية والنضال من أجل سيادة الشعب على ثرواته ومقدراته الاقتصادية. ودعم لقضايا التحرر في العالم وأولها أحقية الشعب الفلسطيني في السيادة على أرضه ومصيره.
- العدالة الاجتماعية
- ضمان الحريات العامة والفردية والنضال من أجل تحقيق مواطنة قائمة على الحرية وحافظة لكرامة الإنسان ومجموع حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ضمن نظام سياسي ديمقراطي شعبي في أفق النضال من أجل إرساء الاشتراكية خيارا استراتيجيا.
(*) مناضل يساري مستقل