بقلم يحيى يعقوبي
تعيش البلاد في الأعوام الأخيرة على وقع انخفاض معظم المؤشرات الاقتصادية، بما في ذلك احتياطاتها من العملات الأجنبية. يعود ذلك إلى تراجع الإنتاجية واشتراط المؤسسات المالية الدولية شروطاً مجحفة ومعقدة وربّما استعمارية في أغلبها لتقديم التمويلات لتونس. يأتي هذا نتيجة تدهور التصنيف الائتماني لتونس من قبل وكالات التصنيف العالمية، الناتج عن تباطؤ النمو وعدم التوصّل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي. وعلى اعتبار انعكاس الوضع الاقتصادي والاجتماعي على الثقافي، يتفاوت الدعم حسب الجهات مع أولوية مطلقة للمهرجانات “الكبرى” حيث يُقدّر عدد المهرجانات الصيفية في تونس بحوالي 395 مهرجاناً، وفقاً لإحصائيات وزارة الشؤون الثقافية. تُقام معظم هذه الفعاليات في شهري جويلية وأوت، تتلقى المهرجانات دعماً مالياً من وزارة الشؤون الثقافية التونسية، يتفاوت حسب أهمية كل مهرجان. حيث يحصل مهرجان قرطاج الدولي على الدعم الأكبر بنحو مليوني دينار، في حين يُخصص لمهرجان الحمامات الدولي حوالي 1.5 مليون دينار. ومع ذلك، تراجعت ميزانية الدعم لهذه المهرجانات الكبرى في السنوات الأخيرة، وبالضرورة يتراجع الدعم للمهرجانات في الجهات الداخلية التي تفتقر بدورها لآليات دعم أخرى سواء من مؤسسات خاصة أو مبادرات مجتمع مدني، ممّا انعكس عليها سلبا حيث تم إلغاء بعضها في السنوات الأخيرة وتعويضها بليالي أو “أيام ثقافية” معدودة ومحدودة البرمجة، ومنها ما يُطلق عليه تسمية “دولي” دون برمجة دولية أصلا وأحيانا لا ترتقي لمستوى التطلعات، ممّا يحيل إلى اعتداء صارخ على حق مواطني الجهات الداخلية في الترفيه والثقافة فتسقط بذلك مقولة “ثقافة للجميع” وتكرّس المنظومة البيروقراطية التي تسير الثقافة “المركزية الثقافية” رغم ادّعائها محاربتها.
البرمجة المهرجانية: أيّ محتوى يقدّم؟
في يومنا هذا مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل والإعلام المتنوع والتأثير الثقافي الواسع، يلعب الفن دورًا بارزًا في تشكيل وتأسيس القيم والمعايير التي يعتمدها المجتمع. فتأثير الفنون والثقافة الشعبية على نشر الأفكار السطحية وبناء المعايير البسيطة يعتمد بشكل كبير على جودة المحتوى الفني الذي يتم تقديمه واستهلاكه.
وهو ما نلاحظه في أغلب البرامج المرافقة “للثقافة الموسمية” في المهرجانات الصيفية، حيث تسهم بعض الأعمال الفنية والإبداعية ذات الجودة المنخفضة والتي تعتمد على السطحية في نشر القيم السطحية وتشكيل متدني للمعايير الثقافية، ويمكن رؤية ذلك بوضوح في مختلف أشكال الفنون مثل الموسيقى، السينما، الفنون الجميلة، والأدب والعروض المبرمجة التي تتوجه نحو التركيز المفرط على الترفيه السطحي والمظاهر الخارجية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إخفاء القيم الإنسانية العميقة والفكر النقدي الذي يساهم في تنمية المجتمع وتقدمه. بهذه الطريقة، يظهر أن الفن ليس فقط وسيلة للتسلية والترويح، بل هو أيضًا أداة قوية يمكن استخدامها لبناء وتقوية الفكر النقدي والتعبير عن القيم الإنسانية العميقة في المجتمعات المعاصرة.
حيث نجد الكثير من العروض التجارية التي عادة ما تكون تكلفتها عالية جدا مقارنة بمحتواها تتناول مواضيع ضحلة مثل العلاقات السّطحية والاستهلاك المادي، ممّا يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية في لاوعي المجتمع، يمكن أن يؤدي هذا التركيز على الموضوعات البسيطة إلى فقدان القدرة على التفكير النقدي وتقليل القدرة على التمييز بين الأعمال الفنية الجيدة والتافهة. وبالتالي تتنامى الدعوة لمكافحة السطحية في الفن والثقافة الشعبية، حيث على القائمين على هذه التظاهرات والفنانين والمبدعين السعي إلى تقديم أعمال مبتكرة تناول قضايا مهمة بشكل جذاب وملهم. وعلى الجمهور، بدوره، أن يسعى لدعم الأعمال الفنية التي تعزز القيم الإنسانية والثقافة المتنوعة. إضافة إلى ذلك، يلعب النقاد والمراجعون دوراً هاماً في توجيه الجمهور نحو الأعمال الفنية ذات الجودة العالية، وفي الكشف عن الأعمال التافهة والضعيفة بتقديم تحليلات نقدية موضوعية، تمكّنهم من المساهمة في تعزيز المعايير الفنية والثقافية وتشجيع التفاعل الفكري العميق.
بالتالي، يمكن للفنون الأصيلة أن تلعب دوراً حيوياً في تعزيز الفهم الإنساني وتعميق الحوار الثقافي، توفر فضاءً للتعبير عن الذات واستكشاف القضايا الاجتماعية والسياسية بطرق إبداعية وملهمة.
حضور محتشم للمسرح وجدل دائم حول تعامل هيئات المهرجانات مع المسرحيين
مع تواصل تغييب البرمجة المسرحية سواء للأطفال أو الشباب أو الكهول في المهرجانات الصيفية (إلا في بعض الاستثناءات المتعلقة بالمهرجانات الكبرى) ينضاف إلى ذلك تشديد الخناق على المسرحيين ليس فقط في تغييبهم وإنما في فرض نوع من الرقابة على الأعمال الإبداعية من خلال التدخل في المحتوى الفني، ونتحدث هنا بالتحديد عن إلغاء عرض مسرحية “آخر البحر” للمخرج التونسي الفاضل الجعايبي من برنامج مهرجان الحمامات لسنة 2024 بعد محاولة مدير المهرجان التدخل في محتوى المسرحية لتعديل النص وإلغاء بعض الحوارات، وهو ما قوبل بالرفض من قبل المخرج والفريق الفني للمسرحية ممّا أدى إلى إلغاء عرضها، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول ما يحدث اليوم في هذه المهرجانات حول رؤيتها للمسرح والمسرحيين ومعايير تقييمها للعروض الفنية وحول التعيينات التي في كل مرة نتفاجأ ببعدها عن الموضوعية والاختصاص واعتمادها على معايير أخلاقوية سلطوية، وهي نفسها من تقبل بالفوضى العارمة والسطحية التي تخلفها بعض العروض الأجنبية على ركح من المفروض أن يكون محمل لأنقى العروض وأكثرها نشرا لثقافة هادفة تعمل ولو بشكل بسيط على الرقيّ بالذوق العام.
إضافة إلى ذلك وإذا ما دققنا النظر في برامج بقية المهرجانات في الجهات الأخرى، نلاحظ الحضور المحتشم والذي يكاد يكون منعدم للمسرح، وهذا وإن دلّ على شيء، فهو يدلّ على عدم إيمان القائمين على هذه المهرجان بالمسرح وسيطرة المنطق الربحي المادي على هؤلاء المشرفين والجمعيات التي تدعي اختصاصها في تنظيم المهرجانات، وهذا ما يخلق أزمة الإدارة ويطرح ضرورة المراجعة الهيكلية للمهرجانات الصيفية.
أولوية المراجعة الهيكلية للمهرجانات الصيفية وضرورة دمقرطة الثقافة
حان الوقت لتقييم واقع سياسة “الثقافة الموسمية” في تونس من قبل جميع الأطراف المعنية والشركاء، خصوصًا في الموسم الصيفي. يجب العمل على مأسسة المهرجانات بقوانين واضحة ودقيقة، والتخلي عن إخضاعها لقانون الجمعيات. ينبغي فتح المجال للترشح لإدارة المهرجانات بناءً على المشاريع الثقافية والبرامج المقدمة، وإعادة النظر في آليات الدعم بحيث تُوضع المنحة تحت تصرف المهرجان وفقًا للبرنامج المقدّم مسبقًا، وتصرف مباشرة من قبل “المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية”. يجب اعتماد معايير جديدة تعطي أهمية كبيرة للخصوصية الثقافية الوطنية والمحلية في البرمجة، وتضمن حقوق جميع المواطنين في الترفيه والاستمتاع بحفلات ذات مستوى راق، سواء كانت منتجة في تونس أو مستوردة من ثقافات أخرى، في إطار دمقرطة الترفيه. إذا استمرت الأمور كما هي وتكررت نفس أخطاء السنوات السابقة كل صيف، فإننا سننحدر إلى أوضاع أكثر سوءاً، وربما يهجر الجمهور التونسي المهرجانات الصيفية بشكل نهائي لأنها لا تلبي تطلعاته الجمالية والذوقية والأخلاقية على اعتبار الثقافة مجالاً حيوياً للشعوب، حيث تساهم في خلق شعور بالانتماء للوطن وتلمس الهويات الصغيرة التي تشكل الحضارة التي ننتمي إليها. لكنها أيضاً موضوع للتنمية يجب العناية به وتطويره، وخلق مسارات ديمومته من خلال القوانين والالتزام الطوعي بمبدأي الحرية والديمقراطية.