بقلم علي الجلولي
أفصحت النتائج النهائية للباكالوريا عن أسرارها، فبعد تقدم 140213 تلميذا لهذا الامتحان الوطني، تمكن 37974 مترشّحا من النجاح في الدّورتين، أي ما يعادل نسبة 55.6 %. وقد علّق العديد من المتابعين، بمن فيهم فاعلين تربويّين على هذه النتائج قراءة وتحليلا واستنتاجا، واتفق جزءٌ مهمٌّ منهم على توصيف الظروف والسّياق الذي تجري فيه أهمّ مناسبة علمية/اجتماعية في بلادنا، كما اتفقت أغلب القراءات على ملامسة أهم سِمات منظومة التعليم والتربية عموما بما يؤكّد تأزّمها وضعفها وانحدارها على أكثر من مستوى، فيما ذهب العديد لدقّ ناقوس الخطر الذي تؤشّر إليه كل مؤشرات وضع التعليم العمومي في بلادنا.
امتحانات ذات رهانات كمّية دعائية
ظلّت الباكالوريا منذ عهد بورقيبة وبن علي، وصولا إلى اليوم، من أهم مناسبات الدّعاية لنظام الحكم والإشادة بمكاسبه خاصة التي تهمّ التّمدرس وانعكاساته على حياة الناس في المدن والأرياف، ولمّا كان التعليم مصعدا اجتماعيا إلى حدود منتصف الثمانينات تقريبا كانت دعاية الحاكم تجد هوى لدى الجمهور الواسع في الداخل الخارج. لكن هذه الدعاية فقدت بريقها بتراجع آفاق التعليم العمومي ثم اندثارها تقريبا بسيادة التوجّهات النيوليبرالية مع منظومة “الإصلاح الهيكلي” المستمرّة منذ أواسط الثمانينات والتي عرفت معها الخدمات الاجتماعية تفكيكا ممنهجا على مختلف الأصعدة، وهو ما يعرف اليوم ذروته؛ فحال المدرسة العمومية بائسٌ، وهي التي أصبحت تفتقد إلى أبسط مقوّمات وجودها، حتى وصل الأمر فقدان الماء الصالح للشرب والإنارة في عدد كبير من المؤسسات، ولا تسلْ في هذا الصّدد عن القاعات ووسائل العمل الدُّنيا ولا حالة الأبواب والشبابيك صيفا وشتاء، ولا حال دورات المياه وفضاءات الرياضة ومخابر الاختصاص، وأصبح مدير المدرسة والمعهد مثل رئيس العائلة الذي يجب أن يتدبّر قوت يومه وغذاء عياله، فهو مطالب بتدبّر الطباشير والأقلام ومواد التنظيف والدّهن وجوائز نهاية العام. لقد أصبحت المدرسة مُنفِّرة، وهي التي لا تحوز الشروط الدنيا للاشتغال، وهو ما غذّى نزعة التوجّه إلى القطاع الخاص الذي لم يعد يستقطب التلاميذ المخفقين أو الأوساط المرفّهة والثرية، لقد أصبح اليوم يستقطب جزء متصاعدا من بنات وأبناء الطبقات الوسطى التي مثّلت العمود الفقري للتعليم العمومي طيلة عقود.
لقد برز في السنوات الأخيرة قطاع خاص يستمر من رياض الأطفال والتعليم الأساسي إلى التعليم العالي، وأصبح يستقطب هذا العام 13 % من مترشّحي الباكالوريا، أي 17398 تلميذا، وهو رقم كبير يعكس تحوّلا في جغرافية التمدرس، وإذ يعرف التعليم الخاص التقليدي والقديم التراجع كمًّا وكيفًا، فإن التعليم الخاص الموجّه لنخبة التلاميذ، النخبة المعرفية وأيضا المادية، أصبح ذي حضور لافت في اهتمامات العائلة التونسية التي تضحّي العديد منها من أجل التحاق أبنائها بهذه المؤسسات وخاصة في المرحلة الجامعية مع انسداد الآفاق التشغيليّة وأيضا تقلّص فرص الالتحاق ببعض الشُّعب ذات “المستقبل” مثل الشّعب الطبية وشبه الطبية، والشعب الهندسية… فأقصر الطّرق من أجل بلوغ ذلك أصبحت التعليم الخاص والقدرة على الدّفع.
إن هذا الخلل الهيكلي الذي أصبح ميزة التعليم في بلادنا يؤكّد أزمة الخيارات المتّبعة، فرغم الخطاب الديماغوجي، خاصة منذ صعود سعيد إلى الحكم ثم استفراده به، والذي تشكّل الوزيرة الحالية للتربية نموذجا مصغرا للشعبوية في مجال التعليم، فإن التّدهور المريع للوضع التربوي يتعمّق. إن الخطاب الرسمي حول نتائج الباكالوريا يستبعد معطيات أساسية لا بدّ من استحضارها حتى لا تنحرف الرّؤية للنّسب والأرقام ويتّجه التحليل اتّجاهات مضادّة للعلم والمنطق والتفكير السليم. إنه لا معنى لقراءة نتائج امتحان السنة النهائية من التعليم الثانوي دون استعراض نسب الانقطاع والتسرّب المدرسي، ونسب الإخفاق ما قبل الباكالوريا، فاعتماد هذه النِّسب سيعيد ترتيب الإحصائيات الجهوية وحسب الشُّعب. أمّا الأرقام المجرّدة لعدد الناجحين والرّاسبين فإنها تعطي صورة غير مكتملة عن حقيقة الأوضاع. صحيح أن ذيل التّرتيب في النتائج محجوز منذ سنوات إلى الجهات الأكثر فقرا وحرمانا مثل القصرين وقفصة وقبلّي والقيروان، لكن قفزة جهات مدنين والمهدية إلى المراتب الأولى لا يعني البتّة تحسّنا في مؤشرات التنمية الاجتماعية والبشرية، فحقيقة الأرقام والإحصائيات تتدخّل في صياغتها تفاصيل محلّية واجتماعية تهمّ أوساطا محدّدة ظلّت مرتبطة بالمستوى المادي للعائلات أساسا.
الوجه الآخر للباكالوريا: تبعيّة الدولة وطبقيّة التعليم
أمّا الوجه الآخر لنتائج الباكالوريا فهو معضلة التوجيه الجامعي. فالعديد لا يعلمون أنّ الناجحين غير متساوين في التمتّع بالتوجيه، فقبل الدورة الأولى للتوجيه التي تُنجز بعد نتائج دورة التدارك، هناك دورة تسمّى “دورة المتفوّقين” وهي دورة الحاصلين على أكثر من 16 معدلا في الدورة الرئيسية للامتحان، والأغلبية الساحقة من هؤلاء هم تلاميذ المعاهد النموذجية المنتصبة في كل الولايات. إن أغلب الموجّهين وخاصة صفوتهم أي “نخبة النخبة” من الحائزين على أكثر من 18 معدلا هو حصولهم على توجيه إلى الجامعات الأجنبية وخاصة الألمانية في أحدث الاختصاصات العلمية والتقنية مع تمتّعهم بالمِنح الجامعية. إن هؤلاء من “الأدمغة” يعزّزون مبكّرا الجامعات ومراكز البحث والمؤسسات الأجنبية، وقلّة قليلة منهم من تعود لاحقا إلى تونس، وحتى إن عادوا فإن مستقبلهم المعرفي والعلمي مهدّد جدّيا في غياب أيّ رؤية وأي استراتيجية للحفاظ عليهم.
إن قناعة عميقة لدى وسط مهمّ من الفاعلين التربويّين تعتبر المؤسسات التربوية النموذجية التي يُنفق عليها من دم الشعب وعلى حساب بقيّة المؤسسات، إنما هي خدمة مجانية لصالح الدول والمؤسسات الاحتكارية الأجنبية، ولن يستفيد الشعب ولا البلاد من عِلم هؤلاء ومن نبوغهم شيئا.
إنّ هذا الوجه الآخر للباكالوريا إنّما يكشف حقيقة منظومة التعليم التي هي مجرّد جزء من منظومة الحكم القائمة، والتي هي منظومة الطبقات السّائدة والمهيمنة، والتي قلّصت أقصى ما تستطيع على الشعب وبناته وأبنائه من المفقّرين إمكانية تسلّق السُّلّم الاجتماعي عبر مصعد التعليم، فالأغلبية السّاحقة من هؤلاء محرومة من الحق في تعليمٍ لائقٍ وفي مستقبلٍ واعدٍ مع انسداد الآفاق التشغيلية التي أصبح معضلة فعلية من خلال عشرات الآلاف من خرّيجي الجامعة المعطلين عن العمل والذين ينتمون، بغالبيتهم الساحقة، إلى الطبقات الفقيرة والكادحة والمهمّشة.