الثوري الحقيقي يكون دوما حيث تكون الجماهير. قاعدة نظرية جاهزة في ذهن أغلب الثوريين وفي خطابهم اليومي. ولكن يصطدم وعي العديد منا بمجريات الواقع الاجتماعي وتعقيداته. هذا الواقع الحي النابض بالحياة وبالتناقضات يأبى التحليل الميكانيكي والقواعد النظرية الجاهزة التي تبقى منطلقا ضروريا لتأطير الحركة وتوجيهها التوجيه الأمثل وإلاّ تحوّلت إلى حركة عفوية وفوضوية. ولكن النظرية ستتحول إلى شجرة ميتة إذا لم تتغذّى من مياه الواقع المتحرّك دوما ويتحوّل وعينا إلى وعي زائف. غياب العلاقة الجدلية بين الواقع والنظرية هو الذي أصاب العديد من متابعي الحراك الشعبي الأخير بالتردّد والارتباك في التّعامل معه. هل هو موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية التي ما فتئ الشعب التونسي يخوضها دفاعا عن حقّه في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية المنتهكة بسياسات لا وطنية ولا شعبية تعدّدت أقنعتها وصيغها ومنفّذوها ولكنّ انعكاساتها الكارثية على الطبقات الكادحة والشعبية واحدة؟ أم أنها تحرّكات مشبوهة مدفوعة من قبل القوى الرجعيّة لمزيد تأزيم الوضع الاجتماعي والسّياسي والأمني والثأر للسّقوط المدوّي لمشروعها السياسي بمنطق “عليّ وعلى أعدائي”؟
شهدت الموجة الأخيرة للاحتجاجات الشعبية التي انطلقت مع تسلّم المهدي جمعة لمقاليد رئاسة الحكومة التحاق أطراف كانت في سدّة الحكم تجرّم الاحتجاجات الشعبية ومارست القمع ضدّها وبرّرته مخوّنة كلّ من قاده وانخرط فيه وسانده وفي مقدّمتها حركة النهضة وحزب المؤتمر. هذا الخلط الجديد للأوراق أصاب البعض بالارتباك والتردّد الذي وصل حدّ الاستقالة من الانخراط في الحركة الاحتجاجية وتسليم بعض الملفات والقضايا المحلية الحارقة المتعلّقة بتردّي الأوضاع التنموية والخدمات الأساسية في بعض الجهات التي فتحتها القوى الثورية والتقدمية على طبق من ذهب للقوى الرجعية. وهو موقف ناتج عن ضبابية موقف البعض من حكومة مهدي جمعة إذ هناك من يتعامل مع هذه الحكومة وكأنها الحكومة المنتصرة على حكومة الترويكا متناسيا أنها حكومة جاءت على ظهر مئات الآلاف من المتظاهرين المنتصرين لدماء شكري بلعيد ومحمد البراهمي ومحمد بلمفتي ولقيم الحرية والديموقراطية ملبّين نداء القوى السياسية الثورية والتقدمية والجمعيات المدنية والحقوقية دون التساؤل ولو للحظة واحدة عن جوهر هذه الحكومة وبرنامجها. هل هو جوهر وبرنامج مناصر لاستحقاقات الثورة ومطالب الشعب أم أنّه حلقة جديدة في سلسلة محاولات الالتفاف على الثورة وتأبيد الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم؟ هل هي حكومة صديقة للشعب؟ أم معادية له؟ هي بالتأكيد حكومة معادية لما افتتحته الثورة من استحقاقات بسياستها الاقتصادية والاجتماعية المتوحّشة. لا ينبغي أن يساورنا الشك لحظة واحدة حول الجوهر الطبقي لحكومة المهدي جمعة وعدائها للطبقات الشعبية ولكن هذه الحكومة كانت حكومة الأمر الواقع الذي أفرزه الحوار الوطني وموازين القوى وليس المطروح عليها أو المطلوب منها إنجاز مهام ثورية، ففاقد الشيء لا يعطيه، والحكم لها أو عليها ينبغي أن يكون على قاعدة تنفيذها للمهام المحدودة التي جاءت بها خارطة الطريق فهي بالتالي حكومة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في اللحظة الأخيرة قبل غرق البلاد نهائيا في مستنقع الإرهاب والاغتيالات والإفلاس الاقتصادي وليست حكومة ثورية ولا حكومة إنقاذ وطني.
فمن غير المقبول أن يتحوّل الثوريّون إلى جنود احتياط لدى حكومة المهدي جمعة لمجرّد أنّ حركة النهضة تسعى إلى إغراقها في نفس دوّامة الفشل التي غرقت فيها بمحاولة إشعال فتيل الاحتجاجات الشعبية التي جرّمتها وقمعتها حين كانت في الحكم رافعة نفس المطالب التي عجزت حكومة النهضة عن تحقيقها وقامت بتسويفها. لا سيّما أنّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية ما فتئت تتأزم وتتدهور دون أن تقدّم الحكومة الجديدة بصيصا للانفراج بل بالعكس هي تمعن في انتهاج نفس السياسات والخيارات التي فقّرت وهمّشت الطبقات والجهات المحرومة في البلاد. فالتجريم بالتالي ينبغي أن يتوجّه رأسا إلى هذه السياسات والتوجّهات التي كرّستها حكومة الترويكا وواصلتها حكومة المهدي جمعة وليس إلى الاحتجاجات الشعبية التي يبقى تنظيمها وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها في التنمية العادلة والحياة الكريمة مسؤولية الثوريين. ولكن بالمقابل فإنّ استقالتهم من العمل الميداني والالتحام بالجماهير المنتفضة هي التي تفسح المجال أمام القوى الرجعية للدخول على الخط والانحراف بالتحرّكات الشعبية عن أهدافها الحقيقية وأحيانا تحت شعارات لا تقلّ ثورية عن تلك التي يرفعها الثوريون في تناقض صارخ بين ممارساتها وخطابها.
فحركة النهضة في السلطة سعت إلى تبرير تجديد عقود الشركات النفطية المشتغلة في تونس بشروط تستنزف ثروات الشعب التونسي استنزافا فاحشا وبرّرت استخراج غاز الشيست المدمّر للتوازنات البيئية وأسقطت كتلتها بالمجلس الوطني التأسيسي مشروع قانون تدقيق تلك العقود وفتح ملفاتها أمام الرأي العام وهي نفسها حركة النهضة خارج السلطة التي تتباكى على الثروة النفطية المنهوبة بالجنوب التونسي وتطلق أجهزتها الدعائية نفير انتفاضة الجنوب وثورة أحفاد الفلاّقة لاسترداد الثروات المنهوبة. إنّ الجماهير الشعبية حين تكون غارقة في اليومي وفي اللحظة المتأزمة التي تمرّ بها لا تتفطن لهذه التناقضات والممارسات الانتهازية أو تغيب عنها ولو لحين في ظلّ غياب دعاية ثورية تصدح بالحقيقة وتعرّي الأطراف الرجعية وتفضحها في خضمّ الصّراع معها ميدانيا ونظريا.
إنّ الجماهير تتعلّم حتما من تجربتها الخاصّة ولكن دون قيادة سياسيّة ثوريّة ستبقى تلك التجربة عفويّة محدودة النتائج والانعكاسات. وأن تكون ثوريا هو أن تكون دوما في مقدّمة الجماهير وفي قلبها وحولها. فالفراغ الذي يتركه الثوريون سيملؤه حتما الرجعيون. ولا مجال إلى لوم الجماهير التي تتعرّض إلى قصف دعائي لا مثيل له على مدار الساعة بفضل الإمكانيّات الهائلة للقوى الرجعية على المستوى المحلّي والإقليمي والدّولي على انقيادها لتلك الدعاية. فاللّوم يقع على عاتقنا لأنّ مسؤوليتنا تتمثّل في مواجهة هذه الدّعاية المظلّلة ومساعدة الجماهير على أن تعِي بطبيعة أعدائها حتّى لا تكون لقمة سائغة للرّجعية مثلما كانت في كلّ هبّة للشعب التونسي طيلة النصف الثاني للقرن العشرين حيث تمكّن النظام الاستبدادي من تجديد شروط الاستبداد والاستغلال. فإمّا أن نكون ثوريّين قولا وممارسة ونكون في مستوى ما تطرحه المرحلة من تحدّيات مهما كانت تعقيدات اللّحظة التاريخية وتغوّل القوى الرجعيّة وإلاّ فإنّ ثورات الفقراء سيسرقها لصوص الثورات مرّة أخرى فيما نحن نواصل النقاش حول طبيعة الحراك الاجتماعي وطبيعة ما حصل في تونس هل هي ثورة أم انتفاضة؟
أيها الثوريون لا تتركوا الشعب وحيدا يواجه جلاّديه والملتفّين على ثورته فتجربته الذاتية ستقول له حتما في يوم من الأيام من كان صديقه ومن كان عدوّه ومن كان على الرّبوة.
حبيب الزموري