بقلم حبيب الزموري
سبق للسيد قيس سعيد أن صرّح يوم 6 أفريل 2023 على هامش إحياء الذكرى 23 لوفاة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بأنه “لا يشعر بنفسه في منافسة أيّ كان”… وأن قضية الترشّح لا تخامره، يخامره الشعور بالمسؤولية… قضية الترشّح لم تكن مطروحة ولا تهمه المناصب ولا القصور ولن يسلّم وطنه لمن لا وطنية له…”
لم يخرج هذا التصريح عن السياق العام لكافة خطابات وتصريحات قيس سعيد السابقة واللّاحقة القائمة على التّعالي بمشروعه الشعبوي عن كافة التجارب الإنسانية وإحاطته بسياج دُغمائي مقدّس غير قابل للنقد التشكيك، من جهة، وتحقير كلّ مشروع أو رأي سواه، بل واتّهام أصحابه بالخيانة التآمر.
إن قيس سعيد بمثل هذه التصريحات يعيد إنتاج الخطاب اليميني المحافظ المتطرّف الذي أنتجته “دبّابات الفكر” اليميني الأمريكي منذ أواخر القرن الـ20 التي حاولت تقسيم العالم إلى معسكرين متناحرين: “معسكر الخير” في مواجهة “معسكر الشر”. لا يختلف قيس سعيد الذي نصّب نفسه مبشّرا ونذيرا حاملا لرسالة مقدسة “سيحاسب عليها أمام الله وأمام التاريخ” على حدّ تعبيره في أكثر من مناسبة، عن عتاة اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية الذين وصل الأمر بقائدهم جورج بوش الابن إلى الادّعاء بأن الله زاره في المنام وكلّفه بأداء المهمّة الربّانية المقدّسة المتمثّلة في تدمير العراق سنة 2003 ليصبح كلّ معارض للحرب على العراق في المجتمع الأمريكي معارضا لمشيئة الرّب.
بمثل هذا الخطاب وبمثل هذه الرّؤية أعلن قيس سعيد ترشحه للانتخابات الرئاسية في تونس في أكتوبر القادم، رؤية لا تقبل المنافسة، متعالية على الواقع، تنفي الآخر، لا تعترف بوجود أيّ رأي أو مشروع سياسي خارج حدود المشروع المقدس الذي يبشّر به الزعيم الملهم.
قيس سعيد يبحث عن بيْعة وليس انتخاب
بشيطنته لكافة المترشّحين للانتخابات الرئاسية وتوزيع الاتهامات جزافا دون تقديم أدنى دليل عليها وتهرّبه من مناقشة الأفكار والبرامج يلغي قيس سعيد أيّة إمكانية لمنافسة انتخابية سليمة يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من النقاش والصراع السياسي والفكري على قاعدة البرامج والرؤى. فلا هو يملك الجرأة على تقييم السنوات الثلاث التي انفرد خلالها بالحكم ولا على مناقشة منافسيه خارج حلبة التّخوين والتجريم التآمر، مواصلا عزفه المنفرد حول العصابات والتآمر والخيانة التي تستهدف الوطن، وبالتالي تستهدفه هو بالذات بعد أن نصّب نفسه ممثلا شرعيّا ووحيدا للوطنية وللشعب. وحتى الفشل الذّريع في تحقيق وعوده التي مكّنته من ركوب موجة 25 جويلية وإطلاق ما يسمّى بتصحيح المسار لم يكن كافيا لتجعله يراجع حساباتها، بل إنه يواصل تحميل مسؤولية الفشل والانهيار المتواصل لظروف عيش التونسيات والتونسيين لأطراف هلامية قادرة على حجب الماء والسكّر والدقيق من جميع أسواق البلاد التونسية وقادرة على حرمان البلاد التونسية من استعادة أموالها المنهوبة وعلى تشويه سمعة الدولة التونسية في المنظمات الدولية…
هذا الخطاب الشعبوي القائم على الشّيطنة وعلى حبك المؤامرات وشيطنة الآخر وتقديس القائد الأوحد والمشروع الأوحد، لا تعنيه الانتخابات بوصفها آليّة ديموقراطية لممارسة السلطة تستوجب مناخا ديموقراطيا يحترم الحريات العامة والفردية ومبدأ تكافؤ الفرص وحياد أجهزة الدولة، بقدر ما يسعى إلى تحويلها إلى بيعة شعبية لمشروع القائد والزعيم الأوحد انخرطت فيها صفحات التواصل الاجتماعي التي بقيت مصادر تمويلها دون متابعة منذ الانتخابات الرئاسية الفارطة رغم ما تمثّله من اختراق رهيب للأمن القومي التونسي بتوجيهها للرأي العام وتمكنها من تكوين قاعدة بيانات ومعطيات شخصية وميولات وأذواق ملايين التونسيات والتونسيين؛ بالإضافة إلى وسائل الإعلام العمومية والخاصة التي تشتغل وسيف الإيقافات والتهديدات على رقاب صحافييها.
من ينافس من؟
انطلاقا من التصريح السابق لقيس سعيد، ومن غيره من التصريحات، فإن لا أحد من المترشحين للانتخابات الرئاسية أو من غير المترشّحين يمكن أن يرتقي في الفكر الشعبوي لمرتبة منافس “للأستاذ”. ويمعن أنصار قيس سعيد في إحاطة زعيمهم بهالة مقدّسة باستعمال أقذر أشكال التزلف والاستزلام والتملق بالإضافة إلى التشويه وهتك الأعراض تجاه معارضيه ليشكّلوا تعبيرة مكثفة عن أقذر أصناف الممارسة السياسية. فالمطروح أمام الزعيم الملهم ليس منافسة بقيّة المترشحين، بل منافسة نفسه من خلال مواصلة ما تمّ إنجازه من خطوات حسب تصورهم خلال السنوات الثلاث الفارطة واستكمال بناء “المشروع”. فقيس سعيد يسابق نفسه ولا أحد غيره وما تصريحه بعدم استعداده لتسليم البلاد “لمن لا وطنية له”، سوى دليل على الأبعاد القصووية التي يمكن أن يذهب إليها قيس سعيد بمشروعه الشعبوي. فتهمة اللاوطنية عبارة عن بدلة إعدام جاهزة لتقميصها لمن توجّه له سهام الشعبوية ولمن تسوّل له نفسه معارضة هذا المشروع. وأقصى ما يمكن أن يقبل به قيس سعيد في علاقة بهذه الملهاة الانتخابية وببقية المترشحين هو منحهم دور “الكومبارس” للضرورة الإعلامية وللترويح الخارجي لتمرير مسرحيته الانتخابية، ولن يتردّد في تسخير أجهزة الدولة لرسم الحدود التي يتحرّكون داخلها بعد أن سخّرها للزجّ بعدد من معارضيه في السجن.
إن المنافس الوحيد لقيس سعيد هو الحصيلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لسنوات حكمه، وخاصة منذ انقلاب 25 جويلية 2021 وانفراده بالحكم. ومهما أمعن قيس سعيد وجوقته الشّعبوية في التّضليل وحبك سيناريوهات التآمر وفي قرع طبول “حرب التحرير الوطني” فإنّ هذه المنافسة ليست في صالح قيس سعيد بالنّظر إلى حجم الانهيار الذي طال مختلف أبعاد الحياة اليومية للتونسيات والتونسيّين على المستويين المادي والمعنوي.
إن تفاصيل أيّ نصر انتخابي محتمل أن يحققه قيس سعيد يساوي هزيمة نكراء على مستوى انعكاسات سياساته على حياة التونسيات والتونسيين وعلى مصير البلاد.