بقلم كمال عمروسية
لقد سارعت القوى التقدّمية في تونس مباشرة بعد هروب رأس النظام التونسي إلى المملكة السعودية بفتح نقاش والعمل على تشكيل هيئات مستقلة عن الدولة وذلك بهدف ضمان عدم تسلطها وهيمنتها، وكان أن توّج ذلك لاحقا ببعث وتركيز خمسة هيئات دستورية استجابة للاستحقاقات وتعزيزا للمكاسب التي اقتلعها الشعب التونسي بفضل نضالاته وتضحياته.
لعل أحد أهم تلك الهيئات كانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تم بعثها يوم 18 أفريل 2011 وذلك برئاسة السيد كمال الجندوبي ورغم الإخلالات التي شابت عمل هذه الهيئة وعمل لاحقاتها، إلا أنها في العموم أنهت مسار هيمنة وتحكّم وزارة الداخلية التونسية وإشرافها على كلّ الانتخابات في التاريخ التونسي.
رغم النواقص التي شابت عمل هذه الهيئة الدستورية إلا أنها حافظت على حدٍّ أدنى من المصداقية والاستقلالية والشفافة. وليس موضوعنا اليوم تقييم عملها في السابق، بقدر ما نبحث في موقعها اليوم من العملية الانتخابية وأي دور لها؟ وأيّ صيت تتمتّع به؟
أسئلة كثيرة تلفّ عمل هذه الهيئة التي نعتقد أنها فقدت جانبها الدستوري من ناحية كما فقدت شرعيّتها من ناحية ثانية. هيئة لم يقع تجديد انتخاب أعضائها، بل إن حاكم قرطاج، وبتاريخ 9 ماي 2024، أصدر أمرا رئاسيا عدد 459 يتعلق بتسمية أعضاء مجلس الهيئة العليا، إذ وقع استبعاد نبيل بافون الرئيس السابق وتعويضه بالعضو السابق فاروق بوعسكر كرئيس للهيئة الجديدة.
إن تعيين أعضاء الهيئة ينزع عنهم صفة الاستقلالية، فشتّان بين عضو يقع انتخابه لمدة نيابية كاملة وبين عضو أو أعضاء يتمّ تعيينهم من قبل رأس السلطة التنفيذية وبون شاسع بين هيئة يقع انتخابها من السلطة التشريعية وأخرى يتمّ تكليفها بالمهمة من رئيس الإدارة. فطبعا ستكون خاضعة وخانعة لوليِّ نعمتها.
إن تعيينها من قبل قيس سعيد يفقدها سلطتها ونفوذها واستقلاليّتها، وهو ما يتماشى مع جوهر مشروع سعيد الشعبوي القاضي بإلغاء كلّ السلط، فلا سلطان غيره. ولعلّ دستوره الذي خطّه وحده يؤكد ذلك فلقد ألغى كلّ السلط وحصرها وجعل منها وظائف لا غير، فلا سلطة قضائية بعد اليوم والبرلمان ديكور لا غير. أما عن مجالس الأقاليم والجهات فلا حياة لمن تنادي.
إن الهيئة الحالية فقدت كل استقلاليتها ولازالت تحافظ على ذلك فقط من خلال تسميتها ومن خلال خُطب أعضائها بين الحين والآخر، بل أصبح معلوم عند القاصي والدّاني ولائها لقيس سعيد وأضحت محلّ عدم ثقة من الناشطات والناشطين السياسيين، فلقد بلغ بها الأمر إلى رفع الشكاوى على معنى المرسوم 54 وممارسة التضييقات، إما على أعضاء سابقين لها أو حتى مترشّحين محتملين للانتخابات الرئاسية.
إن مسار الانتخابات الذي شهدته بلادنا بعد انقلاب 25 جويلية يؤكد الطابع الشّكلي لاستقلالية الهيئة، فلا تعدو إلّا أن تزكّي وتنفذ قرارات قيس سعيد ولم يقتصر دورها إلا على الجانب التقني والحال أنه منوط بعهدتها نظريا مهام أخرى عديدة، بل إنّ أعضائها انزلقوا أحيانا كثيرة في التبرير لنسب المشاركة الضعيفة و هكذا تتحول هيئة بوعسكر لمدافع مستميت لكل خيارات رئيسها الفعلي حاكم قرطاج.
ثم إن الهيئة، وبمناسبة الانتخابات الرئاسية التي تمّ تحديد تاريخها مؤخرا من طرف قيس سعيد والتي ستقام يوم 6 أكتوبر، ظلت صامتة دهرا ولم تخض في غمار هذه المحطة الانتخابية والتزمت الصمت رغم القلق الشديد الذي عبر عنه المنشغلين بهذا الاستحقاق حتى أن غموضا كبيرا كان يحوم حول إجراء الانتخابات من عدمه وذلك لم يزعج مطلقا الهيئة ولم تحرك ساكنا طبعا ما دامت تلك رغبة أحد المتنافسين والمتحكم في كل المسار الانتخابي، فسعيّد هو من حدّد التاريخ وهو من وضع الشروط الكفيلة بالترشح.
في خصوص الترشح، وعملا بأحكام دستور سعيد، فإنّ لكل مواطن تونسي غير حامل لجنسية أخرى مولود لأب ولأم وجدّ لأب وجد لأم تونسيين ويبلغ من العمر يوم تقديم ترشحه 40 سنة على الأقل ومتمتّعا بجميع حقوقه المدنية والسياسية أن يقدْم أوراق ترشّحه للانتخابات الرئاسيّة. الملاحظ أنه لا توافق لشروط الترشح بين القوانين الانتخابية وبين دستور سعيد، وطبعا الهيئة التي لا يمكنها تحديد الرزنامة الانتخابية وهذا في حدّ ذاته يثير الشكوك حول مصداقيتها؛ لا يمكنها إلا أن تساير سعيد في مخطّطه القاضي بفرض تضييقات على الراغبين في الترشح، ناهيك أن هيئة بوعسكر سارعت يومين بعد الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية بإعلان رئيسها فاروق بوعسكر يوم 4 جويلية 2024 عن تعديلين جديدين في شروط الترشّح للانتخابات الرئاسية على أن يقع تضمين هذين التعديلين لاحقا في القانون الانتخابي المعمول به في البلاد التونسية؛ هكذا وبكلّ بساطة تحلّ هيئة بوعسكر محلّ السلطة التشريعية وتنصّب نفسها مشرّعا للقوانين خدمة لسعيد، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشكّ بأنها هيئة للموالاة وفي خدمة قيس سعيد دون سواه.
من بين الشروط التي أثارت جدلا واسعا، والتي تؤكّد الطابع الإقصائي في خصوص المهزلة الرئاسية القادمة، هي البطاقة عدد 3. ففي خصوص هذا الشرط كانت المحكمة الإدارية التونسية وفي حكم شهير صدر في سبتمبر 2014 وقد ورد حرفيا: “الإدلاء بالبطاقة عدد 3 يبقى رهين سلطة الإدارة المختصّة ويخرج بالتالي عن إرادة المترشح، فإن إلزام المترشح بإرفاق مطلب ترشحه في الانتخابات الرئاسية بالبطاقة عدد3 قد يجعله في وضعية حرجة أو مستحيلة ممّا يتعيّن معه إعفاء المترشحين للانتخابات الرئاسية من الاستظهار بالبطاقة عدد3”.
ولقد ذهبت المحكمة الإدارية في إلزام الهيئة التولّي بنفسها متابعة الأمر مع الإدارات المعنية وبذلك ينتفي الجانب الإقصائي، وبمعنى آخر إن الهيئة هي الضّامن لعدم الاقصاء والعسف. إذن هذا فقه قضاء، وهو واضح ولا لُبس فيه. لكن هيئة بوعسكر لن تكون ضامنة لهذا الحقّ، بل إنها ذهبت إلى أن هذا ليس من صلاحياتها وهو مجانب للصواب تماما فلها الولاية العامة على كلّ المسار الانتخابي.
إن شخصا واحدا متحكّما في المسار الانتخابي، وهو قيس سعيد، أمّا الهيئة فلا حول ولا قوة له، وهي عاجزة تماما. فكيف لا وقد ذهب بها الأمر إلى مخالفة المعاهدات الدولية وساهمت بشكل مباشر ومؤثر في تغيير قواعد اللّعبة الانتخابية.
إننا إزاء هيئة غير ملتزمة بالمعاهدات الدولية ولم تمتثل لفقه قضاء المحكمة الإدارية ونصّبت نفسها جهة تشريعية، كما تعتمد على المرسوم 54 لإثارة الشكاوي، وأخيرا راسلت إحدى الإذاعات الخاصة طالبة عدم التعرّض إليها في برامجها الإذاعية… إننا في حضرة هيئة في خدمة النظام وبمثابة التلميذ المجتهد الذي يسعى جاهدا لإرضاء الجهة التي عيّنته وأن الإبقاء عليها ليس إلا من باب إضفاء مشروعية على انتخاباتٍ على المقاسِ؛ إنها أداة في يد السلطة التنفيذية: هي هيئة للموالاة بامتيازٍ.
إن الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستراقبها هذه الهيئة وستشرف عليها حريّ بنا، بل من واجبنا أن نقاطعها، فوضعية هيئة الانتخابات غيضٌ من فيضٍ، وهي جزء بسيط من المناخ العام الذي تغيب فيه أبسط وأقلّ الشروط للمشاركة في هذه المهزلة.