الرئيسية / صوت الوطن / في جدوى المشاركة أو المقاطعة
في جدوى المشاركة أو المقاطعة

في جدوى المشاركة أو المقاطعة

بقلم عادل ثابت

إن السلوك السياسي حيال الانتخابات، سواء بالمشاركة أو المقاطعة، مرتبط بالرهانات التي يطرحها الواقع وشروط تحقيقها في ظروف محدّدة.
وانطلاقا من هذه القناعة لا يمكن أن يكون التعاطي مع الانتخابات جامدا ومطلقا، فالمشاركة في الانتخابات تمكّن في حالات معيّنة من القيام بحملة واسعة للدعاية والتعريف بالبرنامج والبديل الثوري وفضح الثورة المضادة والمشاريع الرجعية وتمثّل فرصة لافتكاك منابر في الهيئات التمثيلية واستغلالها لصالح الطبقة العاملة والفئات الشعبية، كما يمكن بالمقابل أن تتحوّل المشاركة في حالات أخرى إلى مجرّد تزكية وديكور للحكم الفردي واغتصاب الإرادة الشعبية التي يفترض أن تعبّر عنها تلك الانتخابات.
أمّا المقاطعة فهي ضرورية في أوضاع معيّنة بهدف تعميق عزلة المؤسسات الصورية وإضعاف شرعيتها، خصوصا لمّا يتعلق الأمر بانتخابات شكلية معلومة النتائج مسبقا، شرط أن تكون تلك المقاطعة نشيطة ومراكمة في اتجاه تعديل موازين القوى لتحقيق تغيير جذري يقطع مع منظومة الاستبداد، بالمقابل يمكن أيضا أن تتحوّل المقاطعة إلى فعل سلبي مع ما ينجرّ عن ذلك من استقالة وعزلة وتهميش.
إن الإجابة عن سؤال جدوى المشاركة أو مقاطعة الانتخابات الرئاسية التي سيجري دورها الأول في 6 أكتوبر القادم، تقتضي منا تحليلا ملموسا للواقع الملموس الذي ستجري فيه هذه الانتخابات بعيدا عن الشعارات العامة، وهو ما انكبّ عليه حزب العمال خلال المدة الفارطة عبر النقاش الداخلي على ضوء الجدل الذي تثيره الانتخابات الرئاسية في الساحة السياسية ولدى الرأي العام، وقد أفضى ذلك إلى الدعوة إلى المقاطعة النشيطة لهذه المحطة الانتخابية. فما هي الأسس التي بني عليها هذا الموقف؟

في مواجهة الاستبداد وإسقاط الحكم الفردي الشعبوي :

لا يخفى على أحد أن الانتخابات الرئاسية القادمة هي تتويج للمسار الانقلابي الذي دشنه قيس سعيّد في 25 جويلية 2021، وقد اعتبرنا في حزب العمال تفعيل قيس سعيّد للفصل 80 من دستور 2014 للاستفراد بالحكم والاستيلاء على كل السلطات انقلابا داخل الثورة المضادة، لم يكن الهدف منه “تصحيح مسار الثورة” أو القطع مع “العشرية السوداء” كما يزعم سعيّد ومفسّروه، بل جاء للإجهاز على ما تبقى من المكاسب الديمقراطية التي حققتها الثورة لخدمة نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والوطنية.
إنّ ذلك ليس حكما على النوايا بقدر ما هو حصيلة ما انفكت تؤكدها مختلف المعطيات والمؤشرات، فالنموّ الاقتصادي في الصفر ونسبة البطالة تفوق الـ16% (أكثر من 25% في صفوف الشباب) وغلاء المعيشة لا يطاق علاوة عن فقدان عديد المواد الأساسية والمعاناة اليومية للفئات الضعيفة والمتوسطة خلال “صائفة الجمر” جراء الانقطاع اليومي للماء والكهرباء، كما يتعمّق إهمال المرفق العمومي لتتحوّل ضرورات الحياة من تعليم وصحة ونقل وغيرها أكثر من أيّ وقت مضى إلى بضاعة باهظة الثمن. ورغم خطب سعيّد الجوفاء حول السيادة الوطنية فشعبنا لا يزال يقتات من وراء البحار وارتهان الدولة لدوائر المال الأجنبية في ارتفاع والاتفاقيات الخارجية المعلنة وغير المعلنة تحوّل بلادنا أكثر من أيّ وقت مضى إلى حارس لحدود الاتحاد الأوروبي وخادم لسياساته الاستعمارية.
إنّ النظام السياسي الذي أقامه قيس سعيّد قد أجهز على مختلف السلطات ومؤسسات الحكم لفائدة سلطة الرئيس الحاكم الفردي والفالت عن كلّ رقابة أو مسائلة. بعد إعفاء القضاة المستقلين وحلّ المجلس الأعلى للقضاء تمّ تدجين السلطة القضائية التي تحوّلت إلى أداة تأتمر بتعليمات الحاكم الفردي لتصفية خصومه. البرلمان بدوره أصبح مجرّد ديكور لا يتعدّى دوره حدود المصادقة على القروض وعلى مشاريع القوانين التي يبادر بها القصر. أمّا المجالس المحلية والجهوية فهي مؤسسات هلامية لا أثر لها في الواقع. قطاع الإعلام بشقيه العمومي والخاص يتعرّض للإخضاع والهرسلة، ناهيك أنّ المرسوم 54 سيء الذكر قد أصبح سيفا مسلولا في وجه حرية التعبير والمعارضين السياسيين.
إن الاستبداد الشعبوي في بلادنا لا يقوم فقط على احتكار السلطات وضرب الحريات بل حوّل أيضا الانتخابات إلى عملية صورية لا تتوفر فيها أدنى مقوّمات التعبير عن السيادة الشعبية. وهو ما أكّدته مختلف المحطات من استشارة واستفتاء وانتخابات برلمانية ومحلية باهتة، جرت بدون منافسة وبدون حملات انتخابية وبمشاركة ضعيفة جدّا. إنّ هذا الطابع المهزلي للانتخابات في عهد قيس سعيّد هو أيضا عملية مقصودة، الهدف منها خلق الفراغ حوله ومزيد تهميش التونسيات والتونسيين لإبعادهم عن الاهتمام بالشأن العام وثنيهم عن ممارسة حقوقهم.
إن الاستبداد غير قابل للإصلاح والمقرطة من الداخل، وهو ما أكدته تجربة شعبنا تحت الدكتاتورية في عهدي بورقيبة وبن علي وتؤكّده تجربة الحكم الشعبوي اليوم. إنّ كل تغيير ديمقراطي في بلادنا يمرّ عبر إسقاط المنظومة الشعبوية وهو ما يتطلّب التعاطي مع الانتخابات الرئاسية القادمة في هذا الأفق.

في المناخ السياسي والانتخابي الذي تجري فيه الانتخابات الحالية :

منذ الإعلان الرسمي عن موعد الانتخابات الرئاسية وقبله يتعرّض جل الراغبين في الترشح والعديد من المعارضين لقيس سعيّد إلى السجن والملاحقة وشتى أنواع الهرسلة، علاوة على ترسانة الشروط التعجيزية، لمنعهم من التقدّم لهذا الاستحقاق(*). وهو ما يجعل حرية الترشح والمشاركة في هذه الانتخابات غير متوفرة.
كما تجري هذه الانتخابات في ظل احتكار الرئيس الحالي للفضاء العام وللمشهد الإعلامي وتوظيفه لمؤسسات وأجهزة الدولة في حملة انتخابية متواصلة منذ فترة، وهو ما يضرب تكافؤ الفرص بين مختلف المترشحين لهذه الانتخابات.
وتجري هذه الانتخابات أيضا تحت إشراف هيئة نصّبها قيس سعيّد بنفسه، هيئة تتمتع بصلاحيات تشريعية وتنفيذية ورقابية على كل أوجه العملية الانتخابية بما في ذلك مراقبة الإعلام طيلة الفترة الانتخابية(**).
إن انتخابات 6 أكتوبر لن تكون نزيهة وديمقراطية، بل صورية ومهزلة معلومة النتائج لتشريع حكم سعيّد لولاية جديدة. في هذه الحالة، تتحوّل المشاركة، مهما كانت النوايا حسنة، إلى ديكور تعددي للاستبداد.
إن السؤال الذي لا يجيب عليه أنصار المشاركة من القوى الديمقراطية المعارضة للانقلاب هو ما العمل غداة الانتخابات الرئاسية؟ وما هي أفق المعركة من أجل الإطاحة بالاستبداد وأسس المشروع البديل؟
هذا ما سنحاول تقديمه في مقالات أخرى على صفحات “صوت الشعب” في الفترة القادمة.

هوامش:
(*) انظر البيان المشترك بتاريخ في 31 جويلية 2024 الذي أصدرته 11 شخصية تنوي الترشح للانتخابات الرئاسية.
(**) انظر بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين “ضغوطات هيئة الانتخابات تهدّد استقلالية العمل الصحفي” بتاريخ 1 أوت 2024.

إلى الأعلى
×