بقلم علي البعزاوي
تكثفت الإقالات في صفوف المسؤولين وأعضاء الحكومة منذ 2022 سواء في عهد حكومة نجلاء بودن أو حكومة أحمد الحشاني. وقد طالت هذه الإقالات رئيسي حكومة ووزراء من بينهم وزراء سيادة (الداخلية، التربية، الخارجية…).وقد تركت هذه الإقالات عديد التساؤلات حول الأسباب، هل تتعلق بأخطاء وتجاوزات اقترفها المعنيون أم بالكفاءة وضعف المردود. وتبقى الأجوبة مبتورة ولا تفي بالحاجة في ظلّ التعتيم الإعلامي الرسمي الذي يبدو سياسة ممنهجة الغرض منها إبقاء المواطن خارج دائرة الفهم واستيعاب ما يدور في أروقة الحكم وعلى أرض الواقع. وهي فرصة لبروز كتائب المفسرين وما تحدثه تدخّلاتهم وتعاليقهم السخيفة من فوضى وجدل عقيم من شأنه الهاء الرأي العام دون أن يساعد على النهوض والتقدم.
مسؤولية الحكم
الأكيد أن هذه الإقالات المتتالية لا تساعد على الاستقرار الحكومي الذي طبع أيضا حكومات المنظومة السابقة، وكان سببا في انتقادات واسعة، لكن أسبابه كانت على الأقل معلومة لدى المتابعين ولدى الرأي العام.
إن التغييرات المتتالية من شأنها إحداث نوع من الإرباك وانقطاع التواصل في العمل وتؤثّر سلبا على إنجاز المهمات والمشاريع. وليس من الغرابة في شيء أن يطول الحديث عن المشاريع المعطلة وعن البيروقراطية وتوجيه أصابع الاتهام إلى الدولة العميقة وبعض “المتآمرين” الذين يكرّسون التعطيل. ومهما كانت أسباب ووجاهة هذه الإقالات التي تجاوزت المعدلات العادية فإن مسؤولية الرئيس جسيمة ومباشرة لأن التعيينات كانت على الدوام أحادية دون استشارة أيّ طرف أو مؤسسة ولم تكن محكومة بمعايير علمية وموضوعية واضحة. وقد لاقت بعض التعيينات سواء في مستوى الولاة أو الوزراء بعض الاحترازات وأثارت التعاليق حول مسألة الكفاءة وخلفية هذا التعيين أو ذاك (تعيين على قاعدة الولاء للمشروع دون اعتبار للخبرة والاختصاص). ويتساءل الكثيرون عن الفرق من حيث الخبرة والتجربة والكفاءة بين رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن ورئيس الحكومة أحمد الحشاني المقال مؤخرا. وهل وقع تغيير/تطوير مقاييس الانتداب والاستفادة من التجربة الأولى؟ الواضح بصفة أولية أنه لا فرق بين الإثنين، ويبدو واضحا أيضا أن المنصب/المهمّة أكبر من الشخصين لأنهما لم يتحمّلا مسؤوليات من شأنها أن تساعدهما على النجاح في إدارة حكومة بأكملها خاصة وأن هذه الحكومة أمامها الكثير من التحديات التي تتطلب حنكة وتجربة وقدرة فائقة على التخطيط والإنجاز والمتابعة والمحاسبة. وهو ما لم يحصل رغم قصر مدة التكليف خاصة بالنسبة للسيد أحمد الحشاني. ومن المؤكد أن الرئيس المسؤول عن هذه التعيينات لم يستفد من التجربة الأولى (تعيين السيدة بودن) ولم يختر الشخص المناسب لهذه المهمة.
أين موطن الخلل الحقيقي؟
الأكيد أن للأشخاص وللتجربة والخبرة دور هام في تجويد الأداء وحسن التصرف. فالوزير أو المسؤول بصفة عامة لا بدّ أن تكون له دراية وخبرة وتجربة عملية في مجال تعيينه. فرجل التعليم أدرى بوزارة التعليم وصاحب الخبرة والتجربة في المجال الأمني أو الاقتصادي والاجتماعي أو الشؤون الخارجية والدبلوماسية أدرى وأقدر من غيره القادم من خارج القطاع.
لكن هذا لا يكفي، فالانتماء للقطاع يمثل أحد عناصر النجاح لكنه ليس العنصر الأساسي والأهم.
إن المحدد في النجاح يتعلق بالسياسات والخيارات. فوزير التربية يكون ناجحا أكثر إذا كانت الخيارات التربوية مكرَّسة لتطوير المؤسسة العمومية بما تعنيه من مجانية التعليم وظروف دراسة تساعد التلميذ والطالب على تفتيق طاقاته والاجتهاد قدر الإمكان لتطوير ملكاته وصقل مواهبه وتخريج إطارات كفأة يمكن أن تستفيد منها المجموعة الوطنية. وهذا الوزير يكون ناجحا أكثر إذا كان منتدبا من الوسط التعليمي/التربوي.
ووزير الداخلية لا يمكن أن يكون ناجحا إلا في إطار أمن جمهوري يحترم مبادئ حقوق الإنسان ويجرّم الانتهاكات والتعذيب والتمييز بين الأشخاص على قاعدة الانتماء الطبقي. أمن موجّه أساسا لحماية المجتمع من الإرهاب والجريمة المنظمة والفساد والمخدرات وكل ما يساهم في إعاقة أسباب التقدم والرقي.
ووزير الاقتصاد لا يكون ناجحا عندما يكرّس كفاءته لإنجاح برامج تخدم الأقلية الكمبرادورية وكبرى الشركات والمؤسسات الأجنبية التي تستغل الشغيلة التونسية ومواردنا الطبيعية، بل يكون ناجحا عندما يكون هذا الاقتصاد موجها لخدمة الحاجيات الأساسية للأغلبية الشعبية ويعوّل أساسا على القدرات الذاتية للدولة ويكرس الاكتفاء الذاتي في الإنتاج والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجهات. وقس على هذا في كل القطاعات.
المسألة إذن مسألة خيارات وسياسات أوّلا، وخبرة وقدرات ذاتية ثانيا.
ومن هذه الزاوية نعتقد أن إخفاقات الوزراء والمسؤولين لا تعود إلى كفاءتهم وقدراتهم بدرجة أولى، بل إلى الخيارات والسياسات التي يعملون على تكريسها على أرض الواقع.
أما سبب التغييرات المكثفة والإقالات فهو تكتيك للتغطية على العجز والفشل الذي يعود مثلما وقع تأكيده إلى الخيارات العامة والسياسات المتّبعة. ونعتقد أنه لا يمكن انتظار أيّ تطور وأيّ تغيير بالمعنى الإيجابي مهما كانت درجة التجربة والكفاءة والخبرة لهذا المسؤول أو ذاك ما لم تراجع الخيارات والسياسات رأسا على عقب. إن الخيارات النيوليبرالية المتوحّشة الخادمة لمصالح الأقلّية الكمبرادورية الأكثر ثراء في البلاد ولمصالح الشركات والمؤسسات الاستعمارية هي سبب الداء.